Page 88 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 88
العـدد 23 86
نوفمبر ٢٠٢٠
إنها بين يدي الله ،وطلب منها الدعاء ،ومع بزوغ تمنعه ،وحصدت ثمار هذا الحب في امتيازات كبيرة
فجر اليوم التالي كانت قد أسلمت الروح لبارئها، في الجريده فاقت من سبقوها في العمل ،بسبب ما
وأتم إجراءات الدفن ،وأخبرها أن العزاء في منزل
الجدة في الحي القديم ،وحين ذهبت في المساء إلى كان يؤديه ويراجعه له من عمل عن طيب خاطر
وبدافع الحب حتى حصلت حادثة مشاجرة عارضة
الحي الذي ترعرت فيه ،ولم تجده بين المعزين،
هاتفته فقال إنه لن ينزل ،سيبيت في سرير الجدة، نتج عنها تركه العمل ،فوقفت إلى جواره ،ولما لم
عنفته في الهاتف ،وصعدت إليه متسائلة كيف يترك يسترد حقه ،تركت العمل تضامنًا معه ،فازداد
العزاء ويظل في البيت ،فصرخ في الهاتف بصوت
تشبثه بها ،وكبرت ف عينيه وقلبه ،فقالت:
مجروح «مماتتش مماتتش». “عيب ..إنت صاحبي وأستاذي وأخويا”.
هذه اللحظة التي شعرت فيها به كطفل، حتى لحظة المكحلة ،كان الأمر مواساة ،وحضنًا
وبمسئوليتها كأم ،ستصعد لأعلى وتمنعه من أن بين شريكين ،أحدهما مكلوم بموت جدته ،والآخر
يؤذي نفسه ،وتعود به ليقف في مقدمة العزاء، يواسيه ،إلى أن شعرت بأنفاسه الحارة ،وهو يلعق
لكن الأمور التي كانت محتفظة بها طوال السنوات رقبتها ،ويمرغ وجهه في صدرها بصوت باكي
الثلاث الماضية أفلتت فجأة من بين أصابعها ،حين متقطع الأنفاس ،نفس الصوت الذي سمعته في
ارتمى على صدرها في حجرة الجدة وبكى ،وحين الهاتف «جدتي بتموت ..الحقيني” ،كانت تعلم
ثبتت عينيها على المرآة والمكحلة ،ورأت شريكها مكانة الجدة في نفسه ،نشأ في بيتها وتعلم منها حب
زائغ البصر في حضنها في مشهد أعلى من مشهد القراءة والفن والناس ،وأورثته قلبها الطيب الحنون،
المستشفى ،كان يتلمس الراحه والسكينة ،فلم تجرؤ في المستشفى رأته منها ًرا ،حين رآها ارتمى في
أن تدفعه ،وكانت المكحلة تناوش ذاكرتها ،فلم تنتبه حضنها دون تفكير أو حساب لزمان أو مكان ،كانت
لدموعه وهو بين ذراعيها إلا بعد أن أغرقتها ،لم تعلم أن الموقف جلل ،فتركته على صدرها يبكي
تكن تعرف دموع أي منهما التي أغرقتها ،كانت ولم تلتفت لنظرات خاله وأقاربه المستفهمة ،ربما
مستكينة للماضي والمكحلة ،وكان مستكينًا لدفء يعرفون أنها شريكته ،وصديقته ،منذ ترك الجريدة،
صدرها وحنانه ،يفرغ حزنه بضمها لعله يستريح، فتفتق ذهنه عن مشروع عرض عليها أن تشاركه
ومع الصمت رفع عينيه نحو وجهها ببطء ،وأخذ فكرة مبسطة لمشروع كان جدي ًدا في حينها ،مشروع
يقبل عنقها ،ويتشبث بها كطفل ،وشعرت هي به لا علاقة له بالكتابة ،ولا بالصحافة ،ولا بالإعداد
كطفل يلقم صدر أمه ،قاومت في البداية ،لكنها التليفزيوني ،لكنها وافقت على الفور ،وبرغبة صادقه
سكنت تما ًما ،وشعرت بطعم دموعه المالحة على في مساعدته بذلت معه قصار جهدها بإخلاص
شفتيها فارتجف جسدها ،التقم شفتيها ،فتضاما حقيقي حتى وقف المشروع على قدميه وبدأ يؤتي
أكثر ،وتوغلا بلهفة ،وحين أتت الرجفة الأخيرة، ثماره .كان سعي ًدا كطفل عاد لأبويه بعد طول غياب،
انتبهت إلى عينيه الدامعتين وهو يرفعهما نحوها فقد حصل على عمل مستقر مربح ،تشاركه فيه
بامتنان ،ويعدها بأنه سينزل إلى العزاء ،لم تنتبه إلى حبيبته التي كان يحلم أن تظل معه على حد قوله.
ما حدث إلا بعد أن انتهى كل شيء ،فتحاشت النظر أنا كده شبكت حياتنا في بعض علشان متبعديش
إليه ،وهبطت السلالم في صمت ،لكنها لم تكن تلك عني أب ًدا .فتبتسم في هدوء دون أن ترد عليه،
التي صعدت كأم ملهوفة على طفلها ،كانت تهبط وأصبح له منزلة في حياتها إلى جانب زوجها
الدرج بتؤدة ،يغمرها شعور طاغ بأن ماحدث حسم وطفليها ،فيما كانت تعرف أنها وحدها أصبحت
صرا ًعا كان يمزقها ،وأزاح الستار عن مشاعرها كل حياته ،دون أن تعطيه بارقة أمل أبعد من هذه
المتنكرة تحت قناع الصداقة والشراكة ،واكتشفت
الصداقة.
أنها تحبه ،وعليها أن تحسم الأمر. في المستشفى ربتت كتفه في حنان حقيقي طالبة منه
أن يتماسك ،وحاولت أن تتخلص من عناقه لتدخل
إلى الجدة وتطمئن عليها ،لكنه تشبث بها أكثر ،وقال