Page 50 - m
P. 50
العـدد 55 48
يوليو ٢٠٢3
إلا أنه من الممكن حصره في ثلاثة مستويات من على كل نص روائي أن يبدع شكله الخاص .لا يمكن
دون الزعم أن هذه المستويات تمثل كافة الدوائر لأية وصفة أن تقوم مقام البحث المتواصل ،وعلى
التجريبية التي خاضت الرواية العربية في مضمار
العمل الأدبي أن يخلق لنفسه قواعده الخاصة»(.)37
سعيها للوصول إلى النموذج الأمثل في الإبداع بهذا التصور تبلور وعي جديد بما يصطلح عليه
الأدبي .وهذه المستويات ،كما حددها دكتور صلاح (الرواية الجديدة) ظهرت بواكيره في فرنسا
في منتصف القرن العشرين وبلور ملامح هذا
فضل ،هي:
-1ابتكار عوالم متخيلة تتجاوز المألوف ولها الاتجاه -إبدا ًعا وتنظي ًرا -كل من ألان روب غرييه
وناتالي ساروت وكلود سيمون وميشال بوتور
منطقها الداخلي الخاص ،الكاشف لقوانينها وغيرهم(.)38
وشفراتها وجمالياتها. إن التأثير الواضح لهذا التيار الأدبي في رسم
ملامح الرواية العالمية والمحلية ،دفع بعضهم إلى
-2توظيف تقنيات فنية محدثة لم يسبق المماثلة الآلية للرواية العربية الجديدة مع النتاج
استخدامها داخل الجنس الأدبي ،مثل تقنية تيار الغربي متناسين الظروف الفردية والموضوعية
الوعي أو تعدد الأصوات أو المونتاج السينمائي
والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية
وغيرها. التي تحتم التمايز والاختلاف ،فض ًل عن
-3اكتشاف مستويات لغوية في التعبير تتجاوز
خصوصية اللغات ،وأثر الموروث كالنص القرآني
نطاق المألوف عبر شبكة من التعالقات النصية والنصوص التراثية كألف ليلة وليلة وكليلة ودمنه
التي تتراسل مع توظيف لغة التراث السردي
أو الشعري أو اللهجات الدارجة وغيرها لتحقيق ورسالة الغفران وغيرها مما لا ينحصر تأثيره
على الرواية العربية ،بل ُع َّد معينًا كونيًّا تغترف
درجات متباينة من شعرية السرد(.)39 منه الثقافات واللغات المختلفة وتوظفه في سردها
إن المرحلة الجنينية للتجريب بوصفه ملم ًحا فنيًّا الروائي والقصصي .مما يد ُّل على أن التأثير لا
واض ًحا لما أصطلح عليه (الرواية العربية الجديدة) يمسخ الهوية الثقافية والأدبية ،وإن ثنائية التأثير
عكسها وعي الروائيين تنظي ًرا ونتا ًجا إبداعيًّا في
ستينيات القرن العشرين ،يكشفه وعيهم ،كما يعبر والتأثر هي السمة الأكثر وضو ًحا في المشهد
الخراط ،بالحساسية الجديدة للكتابة الإبداعية التي الأدبي دون إنكار الهيمنة الواضحة للرواية الغربية
لا تسعى إلى محاكاة الواقع أو تمثيله بل إلى اختراق
وقدرتها على الابتكار والتجديد مما جعلها راف ًدا
السائد وإثارة السؤال ومهاجمة المجهول(،)40 مه ًّما من روافد للرواية العربية.
ويتضح أي ًضا من خلال البيانات التأسيسية
لجماعات (أدباء الستينيات)( ،)41وقد كان هذا بهذا يعد (التجريب) الذي تمارسه الرواية العربية
الوعي ر َّد فعل طبيعي خلقه الانفتاح على الآخر من (هجنة ثقافية) عابرة للمكان والزمان في آن ،وعملية
جهة ،والرغبة في تأصيل الكتابة الإبداعية من دون
الانغلاق على الهوية الثقافية والأدبية أو الانفصال بحث مستمرة عن مصادر شفاهية أو مكتوبة،
عنها في محاولة لاستيعاب التحولات السريعة التي تراثية أو معاصرة ،محلية أو عالمية ،لتوظيفها
شهدها الواقع العربي من جهة ثانية .لذا فالتجريب سرد ًّيا في مسعى للفرادة والتميز .فلا يعد التجريب
هو محاولة لتأسيس وعي يستوعب الواقع من لأجل (التجديد) غاية في ذاته بل وسيلة للوصول
خلال علاقة جدلية (ديالكتيك) بين الماضي إلى إنجاز عم ٍل فني متف ِّرد ذي قيمة جمالية ينافس
ما عاصره وما سبقه من أعمال روائية حظيت
والحاضر في آن. بموقع مائز في ذاكرة القراء ،فالتجريب قرين
من هنا كان سعي «الرواية العربية المعاصرة إلى الإبداع وجوهره وحقيقته المثلى في ابتكار المغاير
تجديد أدواتها التعبيرية بين الحين والآخر لتحافظ والمختلف والمتمرد على القانون المألوف ،مما يتطلب
جرأة المبدع وشجاعته في خوض المغامرة .ورغم
على أدائها الأدبي ومقوماته الذاتية ،محاولة أن تشعب وتداخل مظاهر التجريب في الرواية العربية
تواكب منجزات الآخر الجمالية والمضمونية من