Page 58 - m
P. 58

‫العـدد ‪56‬‬  ‫‪56‬‬

                                                        ‫أغسطس ‪٢٠٢3‬‬

       ‫الشعرية‪ ،‬وتشابه المعاني والمفردات اللغوية‪،‬‬               ‫من كل ما سبق نلاحظ أن الشاعرين ش َّكلا‬
   ‫وتقارب الصور البيانية والأساليب البلاغية‪ ،‬بل‬         ‫حزنيهما تب ًعا للمثير‪ ،‬وتماشيًا مع كل البواعث‪ ،‬وقد‬

                 ‫وحتى الإيقاع وموسيقى الشعر‪.‬‬                ‫تشابها في وصف الألم‪ ،‬وتصوير المأساة‪ ،‬حتى‬
   ‫ومما أعطى تجربة الشاعرين بع ًدا صوفيًّا‪ ،‬أكثرا‬           ‫أضحى للحزن تشكيلات متنوعة عند كل واحد‬
                                                            ‫منهما‪ ،‬يتشذر منها الشجن‪ ،‬ويقطر منها البوح‬
      ‫فيه من الحكمة وشكوى الزمان‪ ،‬وذكر الموت‬
   ‫والفناء‪ ،‬دخولهما السجن بعد سن الأربعين‪ ،‬فقد‬                                           ‫البائس الحزين‪.‬‬
                                                        ‫ومما يجدر ذكره في هذه الدراسة؛ هو أن أبا فراس‬
      ‫كان دخول المعتمد السجن وهو في آخر عقده‬
   ‫السادس‪ ،‬أما أبو فراس فكان دخوله للسجن في‬                 ‫كان يضع أمله وثقته في دولة قوية كدولة بني‬
  ‫مستهل العقد الرابع من عمره‪ ،‬مع الأخذ في العلم‬           ‫حمدان‪ ،‬وفي فارس بطل ومحنك كابن عمه سيف‬
‫أن تجربة المعتمد كانت الأكثر قسوة من تجربة أبي‬             ‫الدولة‪ ،‬لذلك كانت ملامح الانفراج والخروج من‬
  ‫فراس؛ لأن المعتمد فقد كل شيء في محنته‪ ،‬الملك‪،‬‬
‫والعرش‪ ،‬والسؤدد‪ ،‬والعز‪ ،‬وحياة القصور‪ ،‬وعظمة‬                 ‫السجن تبدو أكثر قر ًبا‪ ،‬على عكس المعتمد الذي‬
‫السلطان‪ ،‬وغدا أسي ًرا كسي ًرا قاب ًعا في سجن أغمات‪،‬‬        ‫فقد الأمل واستسلم للأسر؛ لأنه كان تاج ملوك‬
   ‫حيث توالت النكبات على كاهله‪ ،‬مما جعل شعره‬               ‫الطوائف‪ ،‬وبسقوطه انفرط عقد الأندلس في ذلك‬
  ‫يمتاز بالصدق العاطفي‪ ،‬ولا غرو! فالمعتمد يمتلك‬           ‫الوقت‪ ،‬لذلك نجده ين ِّوع في تأصيل أحزانه ويقوم‬
‫ثقافة شعرية واسعة مكنته من تصوير تلك المرحلة‬               ‫بتشكيلها بطرائق متعددة‪ ،‬حتى أصبحت مرحلة‬
                                                          ‫الأسر هي الأكثر إنتا ًجا‪ ،‬والأغزر سب ًكا‪ ،‬والأقوى‬
                                  ‫المرة القاسية‪.‬‬
  ‫هذا يجعلني أقول‪ :‬إن المعتمد بهذا فاق أبي فراس‬                             ‫عاطف ًة‪ ،‬من كل مراحل حياته‪.‬‬
                                                         ‫إلا أن تأخر إطلاق سراح أبي فراس أثار تساؤلا ٍت‬
    ‫في تشكيل أحزانه‪ ،‬مع أن أبا فراس كان يسبقه‬
  ‫زمنًا ونبو ًغا! إلا أن المعتمد حلق بعي ًدا في تصوير‬        ‫ع ِّدة عند أغلب المؤرخين‪ ،‬والإجابة عن الإبطاء‬
 ‫عواطفه‪ ،‬وأثبت أنه ملك كبير‪ ،‬كما أنه شاعر عظيم‪،‬‬            ‫في فداء أبي فراس تستدعي النظر في الحال التي‬
‫فقد كان من أسرة تقرض الشعر‪ ،‬وكان لا يستوزر‬
   ‫إلا من كان شاع ًرا‪ ،‬وقد حاولت هنا إظهار بعض‬                ‫كان عليها سيف الدولة بعد أسر أبي فراس؛‬
  ‫صور التشابه بينه وبين الأمير الفارس والشاعر‬               ‫فلقد سقطت حلب بأيدي الروم‪ ،‬ونهبت أموالها‬
 ‫أبي فراس الحمداني‪ ،‬من خلال تجربة الأسر التي‬                ‫وأسلحتها وأمتعتها‪ ،‬والفداء يتطلب المال الكثير‪،‬‬
                                                         ‫والروم كان في أيديهم فضل ثلاثة آلاف أسير من‬
     ‫كانت من أهم المحطات الأدبية عند الشاعرين‪،‬‬            ‫العرب‪ ،‬ولم يكن سيف الدولة ‪-‬بافتداء أبي فراس‬
‫ويمكن أن نطلق عليها‪{ :‬أغماتيات المعتمد‪ ،‬وروميات‬         ‫وزمرة قليلة معه‪ -‬ليبقي بين أيدي الروم هذا العدد‬
                                                        ‫الضخم من رجاله‪ ،‬لهذا ظل ينتظر الظروف المواتية‬
                                 ‫أبي فراس}(‪.)21‬‬         ‫التي تسمح بافتداء الجميع‪ .‬وعندما سنحت الفرصة‬
  ‫لقد كانت مرحلة الأسرعند كلا الشاعرين‪ ،‬بمثابة‬             ‫سنة ‪355‬هـ‪ ،‬أقام الفداء بشاطئ الفرات‪ ،‬وأنفق‬
‫المحطة التي توقف عندها الشاعران كثي ًرا‪ ،‬والجذوة‬          ‫عليه خمسمئة ألف دينار‪ ،‬وأخرج كل من قدر على‬
                                                           ‫إخراجه من أسارى المسلمين من سجون الروم‪،‬‬
     ‫الملتهبة التي اصطلى بضوئها وجدان كل واحد‬            ‫ودفع المال الذي لزمه لفداء الأسرى من ماله دون‬
 ‫منهما‪ ،‬حتى وإن كانت اللحظات صعبة‪ ،‬والساعات‬                ‫أن يعاونه أحد من الملوك ولا غيرهم‪ ،‬وقد بلغ به‬
  ‫مريرة‪ ،‬فقد ش َّكلا إنتا ًجا شعر ًّيا مصبو ًغا بالحزن‬   ‫الأمر أن يرهن درعه الثمين المعدوم المثل لما نفد ما‬
 ‫والأسى‪ ،‬ونبرات التوجع والتفجع والكآبة‪ ،‬لتخرج‬
                                                                                    ‫كان معه من مال(‪.)20‬‬
  ‫إلينا قصائدهما في تلك المرحلة ذات شجن عميق‪،‬‬           ‫وختا ًما‪ ،‬يمكننا القول‪ :‬إن أوجه التشابه بين المعتمد‬
‫وتو ُّجع راعف‪ ،‬على الرغم من أنها كانت قصيرة في‬            ‫بن عباد الإشبيلي‪ ،‬وأبي فراس الحمداني في محنة‬
‫الوقت‪ ،‬إلا أنها كانت طويلة من حيث غزارة الإنتاج‪،‬‬
                                                            ‫الأسر‪ ،‬كان لها الأثر البالغ في ظهور العديد من‬
   ‫هذا ما أكده المؤرخون‪ ،‬وشهدت به مؤلفاتهم(‪)22‬‬               ‫الصور المتشابهة بينهما من خلال الموضوعات‬
   53   54   55   56   57   58   59   60   61   62   63