Page 100 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 100

‫العـدد ‪١٩‬‬                               ‫‪100‬‬

                                                               ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

‫هشام البستاني‬

‫(الأردن)‬

‫الانكسار البطيء‬
‫للقيود البعيدة‬

 ‫لدراستها في بودابست‪ .‬صديقتي كانت مع الثّورة‪ ،‬مع‬                              ‫وحيد ًة تما ًما كما كا َن قبلها حين خانه رفا ُقه‪ .‬يظه ُر‬
  ‫الأعلا ِم الحمرا ِء المصبوغة بعر ِق الفلاحين و ُع َّما ٍل لم‬
  ‫َي ْن ُبت ُبر ُع ُمهم بعد‪ .‬قالت لي‪ :‬ستملئين حياتنا الجديدة‬                    ‫لها في أحلامها ليؤنس وحدتها القاتلة‪ ،‬لكنها تستيق ُظ‬
   ‫بالألحان‪َ .‬ف ِر ْح ُت و ِط ْر ُت ولكن ُكلّ ُهم َر َف ُضوا‪ .‬من َأين‬         ‫في النِّهاية‪ ،‬تصطدم بحيا ٍة لا تعرف أهي من اختارها أم‬
    ‫جاؤوا؟ الع ُّم والخال والحمولة والعشيرة‪ .‬من تحت‬
   ‫أي حج ٍر جهنمي خرجوا ليقصقصوا أوراق حياتي؟‬                                                              ‫لا‪ .‬لا تريد أن تعرف‪.‬‬
   ‫قالوا‪ :‬موسيقا‪ ..‬ماذا هذه التي تريدين دراستها؟ أين‬
                                                                                                     ‫>>>‬
 ‫ستعملين؟ َأ َم َع الراقصات والمطربين وبقيَّة ال ّساقطين؟‬
  ‫وبتدبي ٍر م َّمن؟ من هولا ِء الشيوعيّين ال ُملحدين الكفرة‬                                     ‫] ‪[ Coffee n’ News, 2008‬‬
                                                                                    ‫«أنحن اخترنا حيا َتنا أم هي التي اختارتنا؟ أنحن‬
‫الذين تطاردهم الحكومة كال َو َباء؟ ستعودين من الجامعة‬                            ‫نسيِّر مصيرنا‪ ،‬أم أننا نسير بصب ٍر وأنا ٍة إلى أقدارنا‬
 ‫إلى ال َج ْفر‪ .‬والله هذي ِب ْن َت ْك ِب ْد َها ِت ْف َض ْح َنا بين النّاس‪..‬‬
    ‫َن َظ ْر ُت إليه‪ ،‬كان صامتًا‪ ،‬واج ًما‪ ،‬يتف ّطر قلبه دون أن‬                                           ‫المحتومة؟» كانت تقول‪.‬‬
 ‫يتكلّم‪ ،‬لم ينظر في عين َّي بل قال مخاطبًا بلا َط الأرض‪:‬‬                         ‫لكنها حين ترفع عينيها عن الكأس وتصطدم بعينيه‪،‬‬
  ‫(ما يقولونه صحيح يا ابنتي‪ ،‬وكلُّه لمصلحتك)‪ ..‬حتى‬                               ‫تعر ُف الإجابة‪ ،‬وتعر ُف أن تساؤلها هو محض ثغر ٍة‬
                                          ‫َأن ْت!»‪.‬‬
                                                                                           ‫تفتحها في جدار عجزها‪ .‬ثغر ٌة مت َو َّهمة‪.‬‬
            ‫[ ورقة من مذكرات ضابط ُح ّر ]‬                                     ‫«لو أستطي ُع فقط أن أمحو ك َّل ما هو خلفي‪ ،‬لو أستطيع‬

     ‫ُمعسكر ال َّزرقاء‪ ،‬الحادية عشرة والنصف لي ًل‪13 ،‬‬                            ‫أن أعيش الآن فقط‪ ،‬هنا فقط‪ ،‬بلا حيا ٍة لم أخترها‪.»..‬‬
                                   ‫نيسان ‪.1957‬‬                                    ‫هل كانت تعني ما قالت؟ لم تخترها؟ َمن فعل إذن؟‬

  ‫انهار ك ُّل شيء ولم نكن قد بدأنا بعد‪ .‬لم تكن أحلامنا‬                                 ‫أكانت حينها ظ ًّل لا مرئيًّا؟ بخا ًرا لم يتكثّف؟‬
                                                                               ‫«كنت أعشق الموسيقا‪ .‬الكمان‪ .‬يا لتلك الآلة السماو ّية‪.‬‬

                                                                                 ‫أربعة أوتار كانت تحملني بعي ًدا دون أن تنقطع‪ .‬عن‬
                                                                                 ‫طري ِق صديق ٍة شيوعي ٍة َع َر ْف ُتها بالجامعة‪َ ،‬أ َّم ْن ُت بعث ًة‬
   95   96   97   98   99   100   101   102   103   104   105