Page 105 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 105

‫‪105‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫قصــة‬

 ‫برئيس الوردية يطلب إجازة‪ ،‬رأى الشماتة في عيني‬                        ‫‪ -‬انساه‪ .‬لو عاوزه يبقى سواق قطر‪.‬‬
                                                         ‫‪ -‬ها يبقى عواطلي زي اللي على القهاوي‪ ،‬القطر ها‬
 ‫رئيس الوردية والسعادة على وجه مساعده‪ ،‬كل من‬
                                                                                ‫يع َّرفه الدنيا ويقويه عليها‪.‬‬
   ‫حوله في المصلحة يضربون به المثل في الالتزام‬           ‫اكتشف أنه لم يسمع صوتها من قبل‪ ،‬نبراته غريبة‬
 ‫ويتن َّدرون على عدم تعلُّله يو ًما بمر ٍض أو ظرف لأي‬
  ‫سبب ليتخلَّف عن الوردية‪ ،‬كان يزهو عليهم بقدرته‬             ‫عليه‪ ،‬أحبالها الصوتية تنتفخ وكأن امرأة أخرى‬
                                                                            ‫عاشت معه طوال تلك السنين‪:‬‬
                  ‫على مواصلة العمل وردية أخرى‪.‬‬
                                                          ‫‪ -‬ها يستلم شغله فى المصلحة‪ ،‬ما ص َّدقت القرار‬
    ‫لا يحب مساع َده‪ ،‬رغم أن المساعد الشاب لا يمل‬                               ‫صدر بعد وساطة ومحايلة‪.‬‬
     ‫من نفاقه والإشادة بقدراته الخارقة والاستفادة‬
                                                        ‫ما خطر على باله لحظة أن يأتي يوم تغضب فيه تلك‬
‫الضخمة والشرف الكبير الذى يحظى به من ملازمته‬              ‫المرأة التي صدق من ر َّشحها له حتى تلك اللحظة‪،‬‬
                                                            ‫َن َفسها هادئ‪ ،‬طيِّبة غلبانة‪ ،‬مكسورة لقلة الخلفة‪:‬‬
 ‫في العمل‪ ،‬يحلم باليوم الذي يلازمه حازم في نفس‬                                            ‫‪ -‬عايزة تعيش!‬
                          ‫القطار مساع ًدا بد ًل منه‪.‬‬      ‫عندما كان عفيًّا فح ًل فى سنوات زواجه الأولى لم‬
                                                           ‫تتمنَّع عليه أب ًدا‪ ،‬مطيعة تترك له جسدها‪ ،‬عكس أم‬
     ‫صدر القرار بتعيينه أخي ًرا إكرا ًما له لكن المرأة‬      ‫حازم‪ ،‬كانت تعنِّفه وتس ُّبه وتتركه عار ًيا وتغادر‬
‫المجنونة طلع لها صوت وأصبح لها كرامة و ُتع ِّصي‬                ‫البيت مرات كثيرة حتى لا يجبرها على تقليد‬
                                                             ‫الأوضاع الشاذة في الأفلام التي أدمنها‪ ،‬كانت‬
                                       ‫ابنه عليه‪.‬‬             ‫سعادته تزداد كلما تألَّمت زوجه الجديدة رغم‬
     ‫لا يعرف كيف ا َّتسعت كابينة السائق لتس َع ك َّل‬                                         ‫استسلامها‪.‬‬
     ‫هؤلاء الركاب‪ ،‬القطار تقريبًا بأكمله تسلَّل إليها‪،‬‬     ‫سألته يو ًما متعجبة من زواجه منها قبل عام على‬
                                                                                          ‫موت أم حازم‪.‬‬
                         ‫يهتفون فى صوت واحد‪:‬‬                                      ‫قال لها ببساطة شديدة‪:‬‬
                                                                    ‫‪ -‬وهاتجوز قبل أربعينك لو ربنا خدك‪.‬‬
                                        ‫‪ -‬ارجع‪.‬‬          ‫عندما أوقف السكر اندفاع الدم فى شرايينه أصبح‬
                                                             ‫يعنِّفها مع الفشل المتكرر‪ ،‬هي الباردة دائ ًما‪ ،‬لا‬
‫ر َّن فى أذنيه الهتاف القديم‪ ،‬بنفس الإيقاع الذى كان‬
 ‫ير ِّدده المصريون في ميدان التحرير وأمام شاشات‬         ‫تعرف طرق إثارته‪ ،‬لا ترقص‪ ،‬لا تغنج مثل الجواري‪،‬‬
                                                         ‫تصمت وهي تعلم علم اليقين مثلما يعلم تما ًما أن لا‬
  ‫التليفزيون أيام خيبة يناير كما يس ِّميها‪ ،‬كان يحب‬
   ‫مبارك ويلعن كل من في الميدان‪ ،‬منع حازم الذي‬                                 ‫سبب لعجزه سوى السكر‪.‬‬
                                                            ‫يصاب بالرعب‪ ،‬لو علمت مصلحة السكة الحديد‬
  ‫كان صبيًّا أن يخرج من باب البيت رغم بكاء الولد‪.‬‬       ‫بالسكر في دمه‪ ،‬فستمنعه بلا شك من قيادة القطار‪،‬‬
  ‫هل سينتصر حازم وأمه ويفرضان عليه إرادتهما؟‬                 ‫هل يمكن أن تبلغهم؟ ما رآه فى عينيها بالأمس‬

  ‫رائحة الثوم تس ُّد أنفه وتمنع الهواءعنه رغم سرعة‬                               ‫يخيفه أن تته َّور وتفعلها‪.‬‬
  ‫القطار فيكاد يختنق‪ ،‬الهتاف يعلو والأعداد تتزايد‪،‬‬      ‫قبل وصوله لمحطة مصر أح َّس بأل ٍم شديد فى ساقيه‬

       ‫يلمح زوجه تهتف معهم وتح ِّرض حازم على‬                 ‫ون َشفان فى الريق‪ ،‬رائحة الثوم لا تفارقه طوال‬
 ‫الهتاف‪ ،‬يرى المساعد ورئيس الوردية وكثيرين من‬               ‫الطريق‪ ،‬ف َّكر أن يعتذر عن وردية اليوم‪ ،‬سيتَّصل‬

  ‫العاملين بالمصلحة‪ ،‬يعرفهم جي ًدا‪ ،‬أطفال من الذين‬
     ‫يطيرون بمحاذاة القطار دخلوا الكابينة‪ ،‬أحاطوا‬

                   ‫برقبته وكادوا ُيسقطونه أر ًضا‪.‬‬
     ‫غيمة سوداء ثقيلة تنزل أمام عينيه تحجب عنه‬

‫الطريق‪ ،‬أصبح القطار يسير مسر ًعا دون تد ُّخل منه‬
  ‫فأدرك أن مكرو ًها سيحدث بين لحظ ٍة وأخرى إن‬
                                      ‫لم يتوقف‪.‬‬
   100   101   102   103   104   105   106   107   108   109   110