Page 92 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 92

‫العـدد ‪١٩‬‬   ‫‪92‬‬

                                                  ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

                              ‫حرة وكذا سأموت‪.‬‬           ‫إ ًذا اسمعي‪ ،‬كل هذه الحياة يحكمها منطقان لا‬
    ‫أيتها السيدة الصغيرة‪ ،‬لقد مرت أمي من هنا‪،‬‬      ‫ثالث لهما‪ ،‬منطق الشهداء ومنطق الناس‪ ،‬في منطق‬
  ‫وأبي مر من هنا‪ ،‬أسمع همسهما‪ ،‬وأشم رائحتهما‪،‬‬     ‫الناس‪ ،‬الشهداء جماعة من المتهورين الحالمين الذين‬
    ‫وعندما تهدمون هذا البيت سيموتان‪ ،‬ولن أسمح‬
                                                                 ‫أضاعوا أعمارهم جر ًيا وراء سراب‪.‬‬
                  ‫لأحد بقتل أبي وأمي أمام عيني‪.‬‬      ‫وفي منطق الشهداء‪ ،‬الناس ما هم إلا حفنة من‬
‫تريدون حرماني من حديقتي وشرفتي وسريري‬              ‫الجبناء الذين لا يقدرون المعنى ولا يفهمون الرمز‪.‬‬
 ‫لكي تصبحوا أثرياء عندما تنقلون سريري وخزانة‬
                                                       ‫أنا أيتها السيدة الصغيرة من الشهداء‪ ،‬وأنت‬
     ‫ملابسي من غرفتي إلى غرفة جديدة لن يكون‬       ‫وشقيقاك وأمك من الناس‪ ،‬فلن نجتمع قط على كلمة‪.‬‬
              ‫السرير سريري ولا الخزانة خزانتي‪.‬‬
                                                       ‫أشارت إليه بكل يدها اليسرى وقالت‪ :‬بابا لا‬
    ‫قاطعته‪ :‬حتى لو تفهمت أسباب رفضك‪ ،‬فأين‬                        ‫تغضب لو قلت لك أنا لم أفهم شيئًا‪.‬‬
                             ‫ذهبت حقوقنا عليك؟‬
                                                       ‫شرد مصطفى وراء يسرى ابنته‪ ،‬لقد حزنت‬
‫رد بهدوء‪ :‬ليس لأحدكم عندي أي حق‪ ،‬لقد تكفلت‬            ‫المرأة التي تكرهه عندما علمت أن ابنتها عسراء‪،‬‬
     ‫بكم قدر جهدي حتى بلغتم جمي ًعا سن الرشد‪،‬‬
                                                        ‫ولكنَّه أحب اختلاف ابنته‪ ،‬وتوقع لها مستقب ًل‬
   ‫اعملوا وادخروا وأصبحوا أثرياء ولكن بعي ًدا عن‬    ‫مختل ًفا عن قريناتها‪ ،‬طب ًعا لم يتوقع أن تكون عاقة‪،‬‬
                                       ‫بيت أبي‪.‬‬     ‫كان يسرف في تقبيل أصابع يسراها وباطن كفها‬
                                                   ‫وظاهره‪ ،‬كان يقبل اليد التي ترفعها الآن في وجهه‪.‬‬
                        ‫قالت‪ :‬هل لن تساعدنا؟‬
     ‫ابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال‪ :‬لو ربحت ما ًل‬                   ‫جاءه صوتها‪ :‬بابا‪ ،‬هل أنت معي؟‬
 ‫فسأساعدكم‪ ،‬وستكون مساعدتي من باب التصدق‬           ‫قال‪ :‬كنت معك‪ ،‬وها قد عدت إليك‪ ،‬أنت لم تفهمي‬
                                                  ‫شيئًا وهذا أمر طبيعي‪ ،‬فالناس لن تفهم لغة الشهداء‪،‬‬
                   ‫على روح مشاعر كانت وماتت‪.‬‬        ‫اسمعيني جيًدا‪ :‬قبل جلسة خطة شقيقك‪ ،‬كنت أعلم‬

                        ‫>>>‬                          ‫أنني خسرت كل شيء‪ ،‬إلا شيئين‪ ،‬أنت وشقيقيك‬
                                                       ‫ونفسي‪ ،‬ثم خسرتكم فلم يعد لي سوى نفسي‬
   ‫مرت الأيام ومصطفى يعيش منتشيًا بانتصار‬                                         ‫وطلقتي الأخيرة‪.‬‬
 ‫مبدئه‪ :‬كل مشكلة ولها حل‪ ،‬وها هو قد حل مشكلة‬           ‫هذا البيت هو نفسي‪ ،‬وأنا لن أسمح لأحد أن‬
 ‫أولاده بهزيمة خطتهم التي رسمتها لهم المرأة التي‬
                                                  ‫يرغمني على خسارة نفسي‪ ،‬دعوني أقابل ربي بربح‬
    ‫تكرهه‪ ،‬نعم خسر أولاده ولكنه لم يخسر نفسه‪،‬‬                                                  ‫ما‪.‬‬
  ‫سيموت عندما تأتي ساعته‪ ،‬ولكن لن يسمح لأحد‬
                                                    ‫هذه الحديقة بأشجارها وحشائشها هى أنا‪ ،‬هذا‬
                                      ‫بأن يقتله‪.‬‬    ‫البيت هو أنا‪ ،‬طرقاته هى أنا غرفه هى أنا‪ ،‬حيطانه‬
 ‫تلك النشوة التي تليق برجل غريب الأطوار حالت‬         ‫وسقفه‪ ،‬شرفاته ونوافذه‪ ،‬موضع مقعدي الهزاز‪،‬‬
‫بينه وبين جلد ظهره على فرص الثراء التي أضاعها‪،‬‬     ‫مكان تخزين البصل والثوم‪ ،‬غرفة غسيل الملابس‪،‬‬
‫كل ميسر لما خلق له‪ ،‬وهو ليس مخلو ًقا لأن يمتطي‬
                                                           ‫هذه الأشياء هى أنا‪ ،‬هل فهمت شيئًا الآن؟‬
                                      ‫أحد ظهره‪.‬‬      ‫أمد يدي وأمررها برقة على جذع شجرة التمر‬
   ‫يتذكر عندما عمل شه ًرا واح ًدا في مكتب أستاذ‬     ‫حنة فتهز أغصانها شاكرة أقول للنخلة‪ :‬سأرسمك‬
                                                   ‫حتى أحبسك في ورقة بيضاء‪ ،‬فتشمخ بأنفها وترد‬
                                    ‫من أساتذته‪.‬‬     ‫قائلة‪ :‬لن تستطيع فأنا بنت الصحارى البكر ولدت‬
  ‫دار نقاش بينه وبين أستاذه‪ ،‬قال‪ ،‬فيه الأستاذ‪:‬‬
‫يا أخي فلقت رأسي بحسن فتحي‪ ،‬حسن فتحي هذا‬
   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96   97