Page 11 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 11
إبداع ومبدعون 9 التجديد؛ إعاقات يبدو أنها اتخذت شكل عادات عقلية
رؤى نقدية لها سمت البداهة.
الأفكار بأكثر الطرق إجما ًل واختصا ًرا ،وضمن قوالب الآلية الأولى يمكن أن نسميها الإجمال أو التلخيص
متكررة تسمح للذاكرة باختزانها عبر شيفرات متكررة الذي يتغيَّا الوصول إلى «جوهر» الخطاب أو «غايته».
ُتس ِّهل عملية الاستدعاء)2(. يجب هنا الحذر كل الحذر من التعميم ،فهناك
ولعل أخطر ما نتج عن آلية الإجمال هذه هو تسهيل محاولات فردية لإعادة قراءة التراث الفكري البلاغي
عملية الحكم ،خاصة الأحكام التفضيلية أو الإقصائية،
والفلسفي ،لكنها تبدو من بعض زواياها «سباحة
وغالبًا بصورة مطلقة في الحالتين .لم ننتخب من ضد التيار» ضمن ثقافات أصولية تبذل جه ًدا مضنيًا
تراثنا تعدد الأحكام وتجاورها من قبيل« :أخبرني لإعاقة عمليات التحديث .لكن ألا يخفي ما سبق حك ًما
يونس بن حبيب أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ
القيس بن حجر ،وأهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، تعميميًّا كالذي أحذر منه وأخشاه حتى إن حاولت
وأن أهل الحجاز يقدمون زهي ًرا» )3(.لا يبدو في الحذر بالاستثناء؟ يبدو أنه كذلك ولا عجب فكاتب هذه
اختلاف القوم فيمن يقدمون من الشعراء إشكال أو السطور سابح في ماء الثقافات العربية كغيره ،لم ينج
شبهة صراع دفين .يرد في الطبقات أي ًضا هذا الخبر:
«قال أبو عمرو بن العلاء :سئل حسان :من أشعر عقله من أوضارها وأمراضها .فمن الصعب على من
الناس؟ قال :حيًّا أو رج ًل؟ قال :حيًّا ،قال :أشعر الناس قضى سنوات تكوينه الأولي ضمن ثقافاتنا العربية أن
حيًّا هذيل .وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب»)4(. ي َّدعي تطهر الذات ونجاتها بصورة كاملة من محرق ٍة
لكن ما الذي ورثناه مختارين؟ أكان الميل إلى التعدد
والتنوع وقبول الاختلاف في الحكم وتجاور الأحكام لا بد مدركة كل من عاش فيها وإن بنسبة بسيطة.
محاولة التطهر الكامل من أثر الثقافة التي تشكل فيها
الدال على الوعي بنسبيتها؟ أم أن الميل كان إلى
الأحكام التفضيلية التي تعصف بجيل أو عصر ،وربما العقل هي وهم مقيت ،بل فعل فاضح لا ينطلي إلا
على صاحبه .ما يمكننا فعله هو المقاومة بالمعرفة
بفئة أو شعب ،في جملة تمثل حك ًما تعميميًّا قاسيًا، والحيلولة دون تمكن هذه الأوضار والأمراض من
وتذهب مذهب المثل في ثقافة استقرت فيها بقايا العقل بصورة جذرية تتلبس ثوب البداهة ،أي أنه
شفوية قوية؟ يبدو أننا اخترنا طريق «أشعر هذيل غير يمكننا فقط إنقاذ ما يمكن إنقاذه دون مبالغات.
مدافع أبو ذؤيب» بكل ما تقود إليه هذه الطريق من ليكن الوعي بتلك الأوضار والأمراض نقطة انطلاق
تضييع لممكنات قراءة ضمن هذيل ،بل ربما ضمن لتجنبها ،والحركة خطوة بعي ًدا عنها .نحتاج للتعميم
أشعار أبي ذؤيب نفسه ،إذ يفضل النقاد بالمنطق والإجمال في بعض السياقات وصو ًل إلى المساحة
المقصودة بالبحث ،إلا أن الإجمال المخيف الذي أنبه
الإقصائي نفسه عينيته التي أولها «أمن المنون وريبها إليه يتمدد في سياق الأبحاث المختصة ذاتها ليبتلع
تتوجع »..ملقين في الظل بما تبقى من شعره .أحسبها أية محاولة لتمييز الخيط الأبيض من باقي الألوان.
حين تركز تلك الأبحاث على إعادة قراءة منتج فكري،
أحادية عميقة ترسخت ،وتراتبية أثيرة في الثقافة تبدو منطلقة من تلك الرغبة المحمومة في الإجمال
العربية تشبه بئ ًرا زلقة ما أن تضع قدمك على حافتها والوصول الآمن إلى «لب» الخطاب الفكري وغايته
النهائية ،كأنما يتحرك الفكر في خط منسجم متنام
حتى تندفع غير مختار إلى بقعة ضيقة خانقة في لا تشوبه ارتجاجات وارتدادات ،ولا تجاوره خطوط
قاع البئر .الأخطر أننا وصمنا العالم المفكر الرافض
للتعميم المخل والتراتبية الصلبة بالانتحال والوضع، أخرى متشعبة في كل الاتجاهات لها تردداتها
ونسبناه إلي التضييع وانعدام الثقة .ولنتأمل رد خلف ونكوصاتها الخاصة هي أي ًضا.
الأحمر الوضاع المشكوك فيه« :وشهدت خل ًفا فقيل
له :من أشعر الناس؟ فقال :ما ينتهي هذا إلى واحد ربما تتصل آلية الإجمال الساعي لقنص لب الخطاب
ُيجتمع عليه ،كما لا ُيجتمع على أشجع الناس وأخطب بميراث العقلية الشفوية الذي ترك آثا ًرا راسخة في
الثقافات العربية؛ إذ يتناقض الوقوف عند التفاصيل
الناس وأجمل الناس .قلت فأيهم أعجب إليك يا أبا
محرز؟ قال :الأعشى .قال :أظنه كان أجمعهم» )5(.لم مع آليات عمل العقلية الشفوية الراغبة في صوغ
يقبل خلف منطق السؤال منتبها إلى الحكم التفضيلي