Page 185 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 185
ميز ابن رشد بين ثلاثة أنواع من وأن الله حينما خلق الكون كله
المعارف ناتجة عن التأويل في سياق والوجود ،أودع قوانينه وأسراره
حديثه عن البرهان والشريعة ،وأنهما
الكلية في كلماته المحفوظة
يستمدان من مشكاة واحدة هي منذ الأزل في اللوح المحفوظ.
مشكاة الحقيقة .هذه المعارف هي:
المعرفة الخطابية ،والمعرفة الجدلية، فالقرآن في صورته الأولى
في اللوح المحفوظ هو علم
والمعرفة البرهانية .ولكل معرفة الله المجرد غير القابل للإدراك
خطابها ،وتمثل هذه الخطابات البشري .ولما أراد الله أن يجعل
القرآن في متناول الناس ،جعل
مستويات التأويل ،بحيث يكون كل جبريل مبل ًغا عنه للرسول
خطاب قرين المعرفة التي ينتجها والرسول ،مبل ًغا عن الله للناس،
وجعل القرآن كلمات تقع في
حاضرة في وعي شحرور من عن طريق جبريل إلى النبي على نطاق الوعي البشري النسبي.
حيث طبيعة كل منهما .فالقرآن مدى ثلاثة وعشرين عا ًما .ففي وقد تم هذا الأمر عبر عمليتين
هما الإنزال والتنزيل .أما الإنزال
مقره اللوح المحفوظ والإمام القرآن تلازم الجعل والإنزال فهو «عملية نقل المادة المنقولة
المبين ،والرسالة مقرها أم دفعة واحدة ،وافترق التنزيل. خارج الوعي الإنساني ،من
غير المدرك ،إلى المدرك :أي
الكتاب ،والقرآن له وجود سابق ومناقشة شحرور لمسألة دخلت مجال المعرفة الإنسانية»،
على الإنزال والتنزيل وعلى طبيعة القرآن وما تضمنته فالقرآن الموجود بين أيدينا
من مرحلتي الإنزال والتنزيل، «ليس هو عين القرآن الموجود
فعل الصيرورة الذي حدث له جعلته يحدد مفهوم الذكر، في لوح محفوظ وإمام مبين،
وجعله مدر ًكا ومصو ًغا بإحدى وهو الصورة الشفوية أو وليست صيغته نفس الصيغة
الصوتية التي جاء بها القرآن، الموجودة فيهما ،وإنما هو
لغات البشر .وأم الكتاب التي وهذه الصورة غير الصورة صورة قابلة للإدراك الإنساني
تتضمن العبادات والوصايا المنسوخة أو المكتوبة المتداولة
بين الناس .والصورة الصوتية (الإنزال) تم التغيير في
والتعليمات ،ليست من القرآن أو الشفوية هي الصورة التي صيرورتها ،الجعل «إنا جعلناه
وإنما من الكتاب .وتعليل هذا يتلى بها القرآن في العبادات،
عند شحرور أن موضوعات أم وهي في الوقت نفسه محفوظة قرآنا عربيًّا لعلكم تعقلون»
الكتاب ليست من كلمات الله، في الصدور ،ولا يتم الحفظ إلا (الزخرف .)3 :حتى أصبحت
وليست من ظواهر الطبيعة. بالأخذ عن حافظ عليم بقواعد مدركة «إنا أنزلناه قرآنا عربيا»،
ولو كانت كذلك ،لصارت ذات ثم وصلت إلى النبي ماد ًّيا عن
وجود موضوعي مستقل عن التجويد والحفظ. طريق الوحي (التنزيل) والنبي
وعي الناس ،ولصارت نافذة والتفرقة بين القرآن والرسالة
عليهم أجمعين« .فلو كان صوم نقلها للناس».
رمضان مخ َّز ًنا في لوح محفوظ وأما التنزيل فهو نقلة مادية
حصلت خارج الوعي الإنساني
كالنقل بالأمواج ،ولكن حصلت