Page 70 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 70

‫العـدد ‪21‬‬    ‫‪68‬‬

                                                        ‫سبتمبر ‪٢٠٢٠‬‬

‫عليها أو يرميها من النافذة‪ ،‬لكنها لم تكلمه مباشرة‪،‬‬         ‫بألا تنسى هديتي التي وعدتني بها‪ .‬حين أمسكت‬
                                                                   ‫السماعة جاء صوت جدتي جمي ًل بعي ًدا‪:‬‬
  ‫فقط كانت تقبح السجائر وأخطارها في مناسبات‬
                                                                 ‫«إز َّيك يا حبيبي‪ ..‬واحشني يا نور عينيّه!»‬
  ‫أخرى أمام الآخرين أو المدخنين على مسمع منه‪.‬‬              ‫فتحت فمي بأول كلمة‪ ،‬سمعت فقط‪ :‬تووووووت‬

‫أما أبي فكان يتجاهل الأمر تما ًما حين يراه ولا يعلق‬                                 ‫طويلة‪ ،‬وانقطع الخط‪.‬‬
‫على هذا الأمر؛ ومع ذلك كان خالي يخفي السيجارة‬                 ‫سألتني خالتي‪« :‬ماما قالت َل ْك إيه يا حبيبي!»‬

         ‫عن نظره أو يطفئها فو ًرا احترا ًما لوجوده‪.‬‬                               ‫«مافيش‪ ..‬الخط اِت َق َطع!»‬
  ‫أصبحت الساعة الواحدة ظه ًرا‪ .‬تأخرت الحملة في‬
   ‫العودة‪ .‬الجدة كان مقد ًرا لها أن تصل إلى المطار‬      ‫رددت منده ًشا وأنا أرفع سماعة التليفون في الهواء‪.‬‬
  ‫في التاسعة صبا ًحا وتكون في البيت في العاشرة‬
                                                                                         ‫مكالمتي لم تتم‪.‬‬
                      ‫والنصف على أقصى تقدير‪.‬‬                                 ‫***‬

   ‫أتذكر المشهد تما ًما‪ :‬خالي يتحرك كنمر محبوس‬             ‫ذه َب ْت الحملة للمطار لاستقبال جدتي‪ ،‬كانت هذه‬
 ‫بين الأصدقاء الداخلين والخارجين‪ .‬يخرج للصالة‬           ‫المرة مكونة من أبي هاشم وأمي غادة وخالت ّي ثريا‬

  ‫قل ًقا‪ ،‬تحدثه خالتي روضة وتحاول تهدئة خاطره‪.‬‬            ‫ورقية‪ .‬رغم رغبتي الشديدة في الذهاب للمطار لم‬

    ‫خلفها بخطوة ياسمين تخفي دموعها بصعوبة‪.‬‬                 ‫أرغب في ترك خالي حاكم وحده‪ .‬بقيت معه ومع‬

         ‫أنا أتحرك كمدار له‪ ،‬أنظر لوجهه الملهوف‬               ‫خالتي روضة‪ .‬كان جال ًسا يكمل تعبئة حقائبه‬
                                                        ‫ويأتي كل حين أحد أصدقائه ليودعه‪ ،‬فتعمل خالتي‬
    ‫ووجه ياسمين المخطوف وأشعر بالأسى الذي‬
                                                          ‫روضة الشاي فأدخل به لهم‪ .‬أتت ياسمين حبيبته‬
  ‫يعتصرهما‪ .‬خالتي روضة تبدو دائ ًما قوية‪ .‬تقول‬
 ‫له بإقناع صارم‪« :‬حتسافر يا حاكم يا حبيبي!» ثم‬               ‫التي جننت شباب الحي بجمالها الفتان‪ .‬جاءت‬

    ‫تتبعها بكلمتها الأثيرة‪« :‬ق َّدر الله وما شاء فعل!»‬                             ‫لتلتقي بخالتي روضة‪.‬‬
       ‫وحتى لا تترك له فرجة تراجع تتابع خالتي‪:‬‬
                                                          ‫كنت أنا سر خالي‪ ،‬وبحكم يفاعة سني كنت مجا ًزا‬
    ‫«حاجي معاك للمطار!» ثم تدخل لتغير ملابسها‬              ‫للعبور إلى مناطق الحريم بسهولة‪ ،‬فكنت رسول‬

 ‫سري ًعا‪ .‬يقف خالي عند طرقة المطبخ البعيدة يودع‬          ‫الغرام الخفي بينهما‪ ،‬محاف ًظا على سرهما‪ .‬ياسمين‬
‫ياسمين‪ .‬أول مرة أرى ياسمين تبكي بحرقة صامتة‬
                                                            ‫كانت تحبني حبًّا شدي ًدا وتغمرني بقبلات لذيذة‬
  ‫وتمسح دموعها‪ .‬قبَّل خالي حاكم يدها وهو ينظر‬                ‫وكنت أحب أكثر عطرها الأخاذ‪ ،‬أما خالي فكان‬
  ‫لعينيها اللامعتين نظرة لن أنساها‪ ،‬تهامسا‪ .‬قبَّل ْت‬
  ‫يديه وضمتهما إلى صدرها‪ .‬كانت يداها ترتعشان‬             ‫الأكثر محبة وعط ًفا‪ ،‬لا يحرمني من شيء أحبه ولا‬

                                 ‫وصدرها ينهج‪.‬‬             ‫من طلب‪ ،‬يشتري لي كل أنواع الحلوى التي أحبها‬

  ‫أنا أي ًضا خسرت خطيبتي هالة الرائعة في ظروف‬                          ‫ويأخذني معه للسينما التي أعشقها‪.‬‬

   ‫مشابهة لكنها أكثر قسوة‪ .‬هالة بق َي ْت في ذاكرتي‬      ‫عودة الحملة بالجدة من المطار تأخرت للغاية‪ .‬خالي‬
   ‫كأعظم من أحبني في حياتي‪ .‬تعرفت إلى كثيرات‬
                                                          ‫كان الأكثر قل ًقا‪ .‬ينظر في الساعة ويدخن بشراهة‬
       ‫بعدها‪ ،‬لكني ظللت دو ًما أبحث عن طيفها في‬
   ‫الأخريات اللاتي عرفتهن فيما بعد‪ ،‬أتركهن دون‬                 ‫ويذهب كل حين إلى الشرفة إن سمع صوت‬

  ‫سبب واضح‪ ،‬سوى أنهن لا يشبهن روحها‪ .‬كانت‬                    ‫موتور أي سيارة‪ .‬أب ًدا لا يدخن أمام جدتي ولا‬
                                                          ‫والدي احترا ًما لهما‪ .‬كانت جدتي حين تراه تفتعل‬
  ‫تكتب الشعر وتشاركني كل هواياتي‪ .‬نتكلم بفرح‬               ‫عدم الانتباه وتتغاضى بلطف‪ ،‬بينما يخفي خالي‬

                                                        ‫السجائر التي يدخنها؛ مرة خلف ظهره ومرة يدوس‬
   65   66   67   68   69   70   71   72   73   74   75