Page 74 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 74
العـدد 21 72
سبتمبر ٢٠٢٠
بمجرد أن وطئت أرض المطار ،خالجني شعور الطريق الذي لا أعرف كيف انفتح فجأة.
كأنني كنت أكرر تاري ًخا قدي ًما سبقني فيه خالي
بالرغبة في العودة إلى فيينا؛ فالقلق والفرح والحزن حاكم .سببت البلد ورئيس البلد ووزير داخلية البلد
وشرطة البلد وأمن مركزي البلد .طاهر كان صامتًا
والمشاعر المتناقضة لخبطت أحاسيسي .كنت أعلم وملامح وجهه المحتقن مثل سحنة أسد مجروح.
لا أعرف كيف وصلنا إلى المطار ،ولا كيف أنهيت
أنني أنزل بسؤال وحيد قديم منتظر ،وإنني سأوا َجه إجراءاتي .حتى باب الطائرة .لم أنتبه لأي تعليمات
من الجميع بكل الأسئلة التي وصلتني من قبل؛ كانت تأتي عبر ميكرفونات المطار .الصورة الأخيرة
كبّلت ذهني بكل بؤسها وحرقتها :المرأة محشورة
فالكل يرغب في سماع الردود وجها لوجه ولا يمل ومتكورة على أرض رأسي تمسك بطنها وزوجها
مثلها متكور مضروب متسخ على أرض الشارع.
من تكرارها؛ إلا أنا. المشهد بقي في ذهني وأنا في الطائرة .أ ّنبت نفسي
وندمت أنني لم أتصرف بجرأة كافية تحفظ روحي
***
من هذا الألم الدائم.
تحيات وقبلات وأحضان بعمر سبع سنوات هزتني في الطائرة ضاعت شهيتي تما ًما .جاري الذي لم
ه ًّزا .وأعادتني لمكاني في دقائق. أعرفه أدرك عزوفي عن الطعام؛ فسألني بابتسامة
عريضة ،وسحب الصينية نحوه والتهم أكلي بسرعة
في الصالة كانت جدتي تجلس أمامي ،تبدو أكبر
يحسد عليها.
كثي ًرا من سبع سنوات غياب .غضون وجهها الجميل نزلت في مطار فيينا..
أوضح ،إلى جوارها يجلس خالي حاكم وخالتي سبع سنوات عشتها في هذه المدينة ،والمرأة
ثريا وخالتي رقية .جلس ُت أنا مائ ًل محضو ًنا من الحامل وزوجها كانا آخر المودعين لي في القاهرة.
لعلي كنت أختصر كل شيء في حياتي في هذا
أمي كأني سأفلت وأعود فو ًرا من حيث أتيت ،بينما اليوم؛ يومي الأخير في مصر .أغطي على أحداث
خالتي روضة تمسكني من كفي ،وألف سؤال يعبق كثيرة في حياتي بالتركيز والبقاء عند هذا اليوم
وعند هذا المشهد .ظللت ألوكه سنوات عام ًدا أن
في أجواء الحجرة.
يبقى وألا أنساه.
أفل َت مني سؤال بدا غريبًا على العائلة: سبع سنوات ،والتاريخ القديم يربض في ذهني مثل
«حصل إيه لل ِّس ّت الحامل اللي كانت في التاكسي؟
ِوصلِ ْت المستوصف وخلِّ ِفت ولاّ لأ؟ عا ِش ْت وعاش كلب متحفز ينبح عل َّي حين أقترب من النسيان.
***
جوزها ولاّ لأ؟»
عدت بعد سبع سنوات للمرة الأولى .كأني لم أغادر
صمتهم كان أغرب من سؤالي .تبادلوا نظراتهم مصر ،رغم كل الرسائل والمكالمات والإيميلات التي
بسرعة البرق .قالوا في َن َفس واحد وبتنويعات
تبادلتها مع الكثيرين .رغم موت كثيرين في سبع
مختلفة: سنوات .رغم سفر أغلب أصدقائي وتناثرهم حول
« ِس ّت مين اللي بتِحكي عنها؟ /مين ال ِّس ّت دي؟/ العالم ،وانقطاع تواصلنا تدريجيًّا ثم انعدامه .تخيلت
بتتكلِّم عن مين؟ /مين اللي حامل؟ /جوز مين؟/
أن مصر ستظل كما هي!
مستوصف إيه؟»
أمسكت كوب الشاي عام ًدا ،كي أتأخر قلي ًل عن الرد
وأشغل فمي بالشراب بد ًل من الكلام .لكني لم أرد
بعدها .ساد صمت مربك وتوتر .كنت أستعيد فيه
سبع سنوات مضت ،أخفي فيها أي سؤال عن هالة،
سبع سنوات لم أجد فيها كلها أي شيء يستحق
السؤال ،سوى آخر مشهد تركته فيها.