Page 73 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 73

‫‪71‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

‫كنت قد نزلت مبك ًرا ج ًّدا تحسبًا للأمر‪ ،‬لكننا لم نفلح‬      ‫للواحات‪ ،‬للصعيد‪ .‬عدت دائ ًما بخفي حنين‪ .‬هالة‬
                 ‫في إيجاد أي طريق تؤدي للمطار‪.‬‬               ‫كواها الانتظار وأهلكني البعد المتكرر عنها بلا‬
                                                          ‫جدوى‪ .‬الفارق بين قدر خالي وقدري أنها ضاعت‬
 ‫في شلل الوقوف والانتظار أتانا صراخ من تاكسي‬              ‫مني أمام عيني قبل السفر‪ .‬صارت هالة لآخر أتى‬
      ‫قديم متهرئ واقف أمامنا‪ ،‬ورجل خارجه كان‬                 ‫من مكانه البعيد‪ ،‬من بلاد النفط‪ ،‬محم ًل بالمال‬
      ‫يتضرع لضابط ليسمح له بفتح طريق لمائتي‬             ‫والهدايا والمقدرة على حسم الأمور وعلى فتح بيت‬
     ‫متر فقط‪ ،‬كي ينعطف في أول شارع يوجد فيه‬               ‫كما يرغب أهلها وكما تتمنى هي‪ .‬وافقت هالة بكل‬
                                                          ‫بساطة‪ ،‬شطبت تاريخنا القديم بكلمة‪“ :‬موافقة!”‪،‬‬
‫مستوصف الولادة؛ فزوجته في السيارة تتمزق من‬                  ‫واضطررت مجبو ًرا مكسو ًرا إلى الانسحاب إلى‬
           ‫آلام الطلق؛ لكن الضابط رد بكل صلف‪:‬‬              ‫مكان أبعد‪ ،‬ولم أغفر لها لوقت طويل؛ ندمت فيما‬
                   ‫«خليك في عرب ْي َتك يا بني آدم!»‬       ‫بعد وأنا بعيد في فيينّا على غضبي منها لسنوات‪.‬‬
                                                            ‫لم يكن لها ذنب فيما حدث ولا لي‪ ،‬لكني ح ّملت‬
     ‫«حرام عليك يا باشا‪ ..‬دي حتولِد في التاكس!»‬          ‫نفسي ‪-‬لزمن طويل‪ -‬نتيجة ضياعها مني‪ .‬افترقنا‪.‬‬
 ‫«ما ِتولِد في الزفت‪ ..‬ه َي البلد ناقصة ِخلفة كلاب!»‬
 ‫نزلنا نحاول أن نساعد الزوج البائس؛ بعد أن نزلت‬                                        ‫ولم تكتمل المحبة‪.‬‬
  ‫المرأة الحامل ببطنها الكبير رغم الألم‪ ،‬لتسجد في‬        ‫لقائي الأخير بهالة لم يتم‪ .‬جلست أنتظرها في هذا‬
‫الشارع محاولة تقبيل قدم الضابط الذي ركلها فو ًرا‬          ‫اليوم في جروبي لست ساعات؛ ملتم ًسا لها أربعة‬
‫في بطنها ورأسها بلا رحمة‪ ،‬كأنه يبعد كلبة جرباء‪.‬‬           ‫عشرين عذ ًرا للتأخير لكل ربع ساعة عذر مختلف‬
  ‫انفعل زوجها من المشهد الحيواني‪ ،‬شتم الضابط‬            ‫لأهدئ من لوعتي وأساي؛ ست ساعات انتظار‪ -‬هي‬

                       ‫وأراد أن يتهجم عليه سا ًّبا‪:‬‬                                ‫الأطول في عمري كله‪.‬‬
                  ‫«يا كفرة يا ظلمة يا ولاد الكلب!»‬       ‫تزوجت هالة بعد ثلاثة أيام بالضبط من اللقاء الذي‬
       ‫نال المسكين ما نال الزوجة الحامل من بقية‬
 ‫شتائم وضرب‪ ،‬وانضم له فريق من ضباع العسكر‬                                                        ‫لم يتم‪.‬‬
     ‫والأمن‪ ،‬فلم نر شيئًا‪ ،‬اقتربنا بالنخوة الطبيعية‬         ‫قرر ُت أن أترك البلد بما فيه‪ .‬تاريخي فيه أصبح‬
 ‫لحماية الزوجة أو ًل؛ نالتنا ضربات عنيفة لا نعرف‬        ‫ذكرى أشواك‪ .‬قررت أن أسلك طريق الخروج نفسه؛‬
       ‫من أين أتت‪ .‬تحول لنا الضابط شات ًما بسعار‬        ‫إلى فيينا؛ دائما فيينا‪ .‬اتفقت الدوافع والاتجاه واحد‪،‬‬
     ‫مجنون موجها صوته لجهاز اللاسلكي بأوامر‬                  ‫كأنه تراث عائلي نتداوله أو قدر يخص عائلتنا‪.‬‬
                                                         ‫كان يو ًما بار ًدا وكئيبًا‪ ،‬ناسب يوم وصول الرئيس‬
                         ‫وتهديدات ليزيدنا إرها ًبا‪:‬‬     ‫الأمريكي جورج بوش الذي زار مصر في جولة في‬
                ‫«هاتوهم ِولاد الكلاب د ْول كمان!»‬       ‫الشرق الأوسط استغرقت ثمانية أيام‪ ،‬وكانت حصة‬
 ‫ثم اندلقت الكلمات البذيئة من فمه من العيار الثقيل‬          ‫مصر من هذه الجولة ثلاث ساعات فقط لخبطت‬
                                                         ‫حال الدنيا لأيام‪ .‬نهر الطريق خا ٍل منذ الصباح من‬
                                    ‫بسخاء كبير‪.‬‬             ‫حركة السيارات‪ ،‬وتدريجيًّا من الحركة الطبيعية‬
‫كانوا يسحلون الرجل والمرأة م ًعا بلا رحمة‪ .‬لم نعد‬          ‫للناس‪ .‬انتظام صارم في صفوف الأمن المركزي‬
                                                        ‫والشرطة تمتد من وسط البلد حتى المطار متشابكة‬
                   ‫نرى شيئًا‪ .‬نسمع فقط صرا ًخا‪.‬‬
   ‫طاهر يشدني للخلف ويتلقى ضر ًبا وأنا أي ًضا‪ ،‬لا‬             ‫الأيدي لا تسمح بمرور نملة من جانب لآخر‪،‬‬
‫نعرف من أين يأتي‪ .‬انفتق كم قميصي ووجدت د ًما‬                  ‫وفوضى وتوتر في أصوات اللاسلكي الكريه‪.‬‬
‫على رأسي‪ .‬كنت في عصبية أشتم والضجيج يغطي‬
 ‫على كلامي‪ .‬شدني طاهر وزراير قميصه قد طارت‬

     ‫هي الأخرى‪ .‬عجنني في السيارة‪ .‬ثم انطلق في‬
   68   69   70   71   72   73   74   75   76   77   78