Page 72 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 72

‫العـدد ‪21‬‬    ‫‪70‬‬

                                                     ‫سبتمبر ‪٢٠٢٠‬‬

‫في حينا سميناها “تكتوكة”‪ .‬كانت في وقت العشار‬           ‫غاضبًا‪“ :‬خلاص عم ْلها ابن الخانكة‪ِ ..‬نر َجع َب َقى!”‬
  ‫تلف كل الحارات بحثًا عن كلاب ذكور‪ ،‬وكانت لها‬       ‫كادت خالتي روضة توافق وتطلق لازمتها المعتادة‪:‬‬
                                                     ‫“ق ّدر الله وما شاء فعل!” بينما بدا طاهر حائ ًرا وأنا‬
                            ‫أجمل جراء في الحي‪.‬‬       ‫مصاب بخيبة أمل في رؤية المطار‪ ،‬ممزوجة بفرحة‬

      ‫وصلنا إلى المطار وخالي مازال يسب ويلعن‬                  ‫خفية إن عاد خالي معنا ونسي أمر السفر‪.‬‬
                                                         ‫فجأة سمعنا أصوات “سارينات” رعب العربات‬
 ‫الرئيس والبلد والمسئولين‪ ،‬وطاهر يهدئ‪ ،‬وخالتي‬          ‫والدراجات النارية المارقة بخيلاء‪ ،‬حاملة الرئيس‬
                                                       ‫وضيفه‪ ،‬وبدأت الطوابير المنتظمة تعلو بالهتافات‪،‬‬
   ‫تقطع الحديث بكلمتها الأثيرة‪“ :‬ق ّدر الله وما شاء‬
                                         ‫فعل!”‪.‬‬            ‫والشارع انقسم لنصفين كأن موسى قد شقه‬
                                                      ‫بعصاه‪ .‬مشهد عبثي يتكرر عشرات المرات كل عام‬
               ‫لكن لقاء خالي حاكم بجدتي لم يتم‪.‬‬
                     ‫***‬                                      ‫في كل حركة لسيادة الرئيس مع حاشيته‪.‬‬
                                                         ‫ثم انفتح الطريق بعد نصف ساعة تقريبًا‪ .‬داس‬
   ‫سافر خالي وغاب ست سنوات ثم عاد‪ ،‬كان أكثر‬              ‫طاهر على بدال البنزين في طريق المطار‪ .‬الذي‬
                                                      ‫كان يعج بسيارات واقفة تزمر لبعضها البعض في‬
 ‫نحافة وأجمل ملب ًسا لكنه بدا كثير السرحان والغم‪.‬‬
     ‫بدا حزينًا وناد ًما لأنه ترك ياسمين‪ .‬لم يستطع‬                         ‫مشهد وأصوات أكثر عبثية‪.‬‬
                                                      ‫فجأة صرخت خالتي روضة‪“ :‬ماما اهي‪ ..‬ماما في‬
  ‫التواصل معها لا برسائل ولا باتصالات تليفونية‪.‬‬
                                                        ‫العربية البيضا ع الناحية التانية‪ ..‬ا ُو َقف اُو َقف يا‬
  ‫هي استطاعت التوصل له بالاتصال من السنترال‬                                         ‫طاهر الله يخليك!”‬

     ‫بعض المرات‪ .‬كنت معها في ثلاث مرات منها‪.‬‬            ‫ركن طاهر في اليسار عند حد الرصيف الأوسط‬
                                                            ‫وسط زعيق السيارات في الخلف‪ .‬نزلنا نلوح‬
 ‫ياسمين تزوجت قبل عام ونصف وسافرت لإحدى‬
                                                     ‫لسيارة الجدة التي تزحف في الناحية الأخرى ببطء‪،‬‬
 ‫الدول العربية‪ .‬تزوجت من آخر شخص كان يتخيل‬              ‫لكن لم يرانا أو يسمعنا أحد واختفت عن الأنظار‪.‬‬
                                                            ‫طاهر تلقى على وقفته الفجائية شتائم تكفيه‬
  ‫أحد أن ترتبط به‪ .‬سئ َم ْت الانتظار وضغطت عليها‬        ‫لمدة عام‪ .‬ولما اقتربت سيارة بوليس من الناحية‬
‫العائلة والزمن ولم تنصلح أحوال خالي في فيينا إلا‬         ‫الأخرى‪ ،‬اضطر للركوب ومواصلة السير وسط‬
                                                         ‫لعنات وأبواق تسب برموزها الضمنية وهو يرد‬
                ‫مؤخ ًرا‪ ،‬وحين عاد ُص ِدم بزواجها‪.‬‬         ‫عليها بذات الطريقة أو برموز شفوية مضحكة‬
‫حضرت زواجها وبكيت بكا ًء شدي ًدا لم يعرف سببه‬         ‫يفهمها خالي ولا تفهمها خالتي‪ .‬كنت أموت ضح ًكا‬
                                                                      ‫على سيمائه وأنا لا أفهم معظمها‪.‬‬
      ‫إلا ياسمين‪ .‬قالوا لزوجها وللناس إنني حبيب‬
                                                     ‫“أهو إن َت يا ْبن بابور الجاز اللي من غير طربوش!”‬
  ‫ياسمين الصغير وطفلها المدلل‪ ،‬وإنني حزين ج ًّدا‬        ‫أو “يا بن َتكتوكة في الخريف!” الأخيرة فهمتها؛‬
 ‫لفراقها وغيابها‪ .‬أعطاني يومها هذا الزوج علبة من‬
                                                     ‫فانهرت برأسي على حجر خالتي من شدة الضحك‪.‬‬
    ‫“ال ِم َلبِّس” تعوي ًضا وهو يبتسم في وجهي أسوأ‬   ‫ضحك الجميع على صوت ضحكتي المسرسعة التي‬
     ‫ابتسامة تلقيتها في تاريخي‪ ،‬كانت مثل صفعة‬        ‫لم أستطع إيقافها‪ .‬فهو كان يقصد بها كلبة مشهورة‬

    ‫مزدوجة لخالي حاكم ولي‪ ،‬رفضت قبول هديته‬

  ‫واحتضنت ياسمين‪ .‬بكينا م ًعا وبكيت لخالي معي‪.‬‬
 ‫لم أكن أتخيل أن تكون ياسمين لغير حاكم‪ .‬لم يكن‬

‫هناك في يقيني إلا أن يكونا م ًعا‪ ،‬وتخيلت أنه بمجرد‬
     ‫زواجهما سأنتقل لأكون ثالثهما ومعهما للأبد‪.‬‬

   ‫قصة حب حاكم وياسمين لم ُيق َّدر لم لها أن تتم‪.‬‬
                     ‫***‬

                  ‫لقائي الأخير بهالة أي ًضا لم يتم‪.‬‬
‫جربت أعما ًل كثيرة‪ ،‬سافرت للغردقة‪ ،‬لشرم الشيخ‪،‬‬
   67   68   69   70   71   72   73   74   75   76   77