Page 75 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 75

‫‪73‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

                                                            ‫سعيد سالم‬

                                                    ‫حصيلة الأقدار‬

   ‫صوتي مرئي لما ٍض ولَّى وانتهى ولن يعود ولن‬         ‫يبدأ يومي الترفيهي من بعد العاشرة مساء‪ .‬أكون‬
  ‫تعود أيامه‪ .‬أشعر بالأسى وقد حل في زماني هذا‬        ‫قد انتهيت من حصتي اليومية من القراءة والكتابة‪،‬‬
  ‫أقزام شائهة محل رياض السنباطي وبليغ حمدي‪.‬‬          ‫فأعطي لعقلي فسحة من الراحة يتوقف فيها الزمن‬
‫أجاهد كثي ًرا حتى أتخلص من هذا الشعور وأستمتع‬       ‫عن الزن‪ .‬في معظم الأحيان أفتح قناة عربية محددة‬
  ‫باللحظة الحاضرة‪ ،‬في غياب للجثامين الثلاثة عن‬
                                                       ‫تذيع كل يوم وصلة غنائية كاملة لأم كلثوم يمتد‬
                                  ‫خاطري تما ًما‪.‬‬       ‫زمنها إلى مايقرب من الساعة أو يزيد في بعض‬
       ‫عقب انتهائي من العزف مع انتهاء الأغنية أو‬
  ‫القصيدة‪ ،‬أضع العود جانبًا محاو ًل السيطرة على‬          ‫الأحيان‪ .‬أشارك الفرقة الموسيقية العزف على‬
 ‫أنفاسي اللاهثة من حدة الانفعال‪ ،‬خاصة في ختام‬       ‫عودي سماعيًّا بعد أن أعرف من جوجل اسم المقام‬
 ‫قصيدة الأطلال التي تدق فيها ضربات الدف بقوة‬
   ‫رهيبة تشعرني بعنف ضربات القدر حين تقترب‬              ‫الذي تعزف عليه الأغنية‪ .‬متى عرفت المقام فقد‬
                                                        ‫عرفت مواقع العفق على قصبة العود‪ ،‬ثم أتأكد‬
                ‫الأشياء من النهاية في دنيا الزوال‪.‬‬     ‫من مطابقة ذلك للحن اعتما ًدا على أذني العاشقة‬
  ‫بعد ذلك أظل أقلب في قنوات التليفزيون باحثًا عن‬        ‫للموسيقا‪ .‬أنفعل أحيا ًنا مع اللحن ومع انفعالات‬
                                                        ‫أم كلثوم لدرجة البكاء‪ .‬أنظر بقدسية إلى محمد‬
     ‫فيلم سينمائي جيد أو حوار سياسي أو قضية‬           ‫عبده صالح عازف القانون وإلى محمد القصبجي‬
‫اجتماعية مثارة في أحد البرامج‪ ،‬أو أي عمل إنسان ٍّي‬   ‫عازف العود اللذان يتفننان بإخلاص أخناتوني في‬
 ‫را ٍق يغري عقلي بالمتابعة ووجداني بالانفعال‪ .‬أنام‬      ‫الذوبان والتناغم مع انفعالات أم كلثوم وألحان‬
                                                    ‫عمالقة النغم‪ .‬أرى في يقيني أنهما لا يعزفان‪ ،‬وإنما‬
   ‫بعد ذلك مباشرة‪ ،‬فلا سهر مع أصدقاء ولا سفر‬            ‫يصليان في محراب خلف إمامهما الست‪ ،‬وهما‬
   ‫إلى بلاد الله داخل مصر أو خارجها‪ ،‬ولا صعلكة‬         ‫يتابعان خلجاتها وحركاتها وسكناتها وتمايلاتها‬
    ‫في الفنادق والملاهي الليلية بصحبة الصديقات‬         ‫وارتعاشاتها وتشنجاتها‪ ،‬بعشق يذيب ك ًّل منهما‬
                                                     ‫ذوبا ًنا كام ًل في حالة الفن الخالص الذي يعيشانه‬
     ‫والأصدقاء الذين لا أستطيع اليوم أن أحصيهم‬          ‫معها‪ .‬لا يغيب عن خاطري لحظة أن الجميع قد‬
 ‫عد ًدا‪ ،‬والذين مازالت ضحكاتهم وقهقهاتهم تجلجل‬         ‫ماتوا‪ :‬المطربة والعازفون والجمهور المتأنق في‬
 ‫في أذني‪ .‬أصبح البقاء في البيت هو الشيء الوحيد‬          ‫ملبسه وفي التعبير المتحضر عن إعجابه بغناء‬
‫الممكن بعد أن رحل معظم هؤلاء الأصدقاء‪ ،‬واختفى‬       ‫الست‪ ،‬مدر ًكا أن ما أراه وأسمعه هو مجرد تسجيل‬

      ‫الباقون بسبب السفر أو الهجرة أو المرض أو‬
‫انشغالات الحياة الأخرى‪ .‬هكذا أظل أتابع ما أشاهده‬
   70   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80