Page 79 - ميريت الثقافية- العدد 21 سبتمبر 2020
P. 79
77 إبداع ومبدعون
قصــة
عملت بها .كم أعددنا م ًعا من دراسات الجدوى هذا العمر من نشر هذا الخبر على صفحتي انتظا ًرا
لمشاريع عديدة وناقشناها مع الخبراء الأجانب .كنا لردود الأفعال المرتقبة والاهتمام المؤكد؟ بينما
نذهب م ًعا إلى الشركة ونعود منها في عربة واحدة، الحقيقة أنني لم أعد بحاجة إلى مثل هذا الاهتمام
أو إلى كلمات المديح والثناء .لقد أصبحت أكثر
لا تق ُّل أح ًدا سوانا ،وكنا نضحك كثي ًرا ونتبادل
النكات والقفشات والسخرية من أحوال الحياة. سعادة بالاستغناء عن معظم رغباتي من الحياة ،فلا
أرواح ثلاثة استحالت إلى جثث صامتة مصمتة. الشهرة ولا المال ولا المنصب أصبح أحدهم يشكل
منذ لازمت مخيلتي الأكياس القماشية الثلاثة التي
احتوت على ثلاثة أجساد ساكنة ،لا تشعر ولا تحس جانبًا ولو ضئي ًل من دائرة اهتماماتي الإنسانية..
ولا تسمع ولا ترى ولا تفكر ،وأنا أتصور نفسي حدث ذلك منذ اليوم الذي أصبحت تطاردني
–في كل فجر– ملفو ًفا في الكيس الرابع القادم إليهم
في الطريق لأوضع بجوارهم في نفس الصف وأنا فيه الجثامين الثلاثة وتلازمني ذكراهم فجر كل
أصلي عل َّي ،ثم أمشي في جنازتي .حينئذ أشعر يوم قبل الصلاة وبعدها .أراهم ممددين أمامي،
شعو ًرا عميقا ينخر في أعماق القلب بأن الوحدة هي مرصوصين في صف واحد وأنا جالس بجوارهم
حصيلة الأقدار ونهايتها ،وأن التعايش معها أصبح في المسجد قبل الصلاة عليهم ،رغم أنهم ماتوا في
أم ًرا محتو ًما لا يصح أن يواجه برفض أو استنكار،
وإنما التعايش الآمن معها هو البديل الوحيد لسلام سنوات متعاقبة مختلفة.
ما الذي أفيده من هذه الدنيا حينما يقول الناس
العقل انتظا ًرا للنهاية. عني إنني كاتب عظيم ،وما الذي يمكن أن يضاف
بعد انتهاء التمثيلية وجدت نفسي أتصل بعلي إلى وجودي لو شهدت أمة خلقه بأنني كاتب متميز
الجندي لأسأله إن كانت أعجبته ،مع ثقتي بأنها قد متفرد ،استثنائي لن يتكرر؟ طظ!! كل هذا أصبح
أعجبته بالفعل .قال لي إنها والله تحفة أدبية رائعة، عندي هرا ًء لا معنى له منذ أن التصقت الجثامين
ودعا لي بالصحة وطول العمر ،ثم سألني بفضول:
الثلاثة بذاكرتي دون أن أعرف لماذا أو كيف.
-ماذا تفعل الآن؟ سبق أن بكيت بحرقة حين رأيت جثمان أمي وهم
قبل أن أفكر في إجابته تزاحمت في رأسي صور
وأصوات لا حصر لها .الكثرة الذين رحلوا والقلة يهيلون عليه التراب في مقابر أبي قير وأنا غير
مصدق لما أرى .كما سبق أن بكيت ولكن بحرقة
الذين تبقوا والجثامين الثلاثة وصوت ضربات أقل على العديد من الأقارب والأصدقاء المقربين
الدفوف العنيفة في نهاية قصيدة الأطلال ،وأم الذين تعرضوا لنفس المهزلة الحتمية المؤكدة .أما
كلثوم وهي تصرخ شادية أن كل شيء بقضاء، هؤلاء الثلاثة الذين ارتبطوا عندي بفكرة الاستغناء
وأننا لم نخلق بأيدينا تعاستنا ،وأنه لا ينبغي أن
والقبول بالوحدة والرضا بها ،فهم أخي الأكبر
نقول إننا شئنا شيئًا ،فالحظ هو الذي شاء. كمال وصديقي الأديب محمد الجمل وزميلي في
استطعت بمعجزة كونية أن أخترق حصار الصور العمل خليل نعيم .كان كمال هو الساعد الأيمن لأمي
والأصوات والكلمات والألحان والجثامين وصوت في تربيتي ورعايتي منذ فقدت أبي وأنا طفل في
الثانية من العمر .كان الجمل رفيقي في طريق القلم،
أذان الفجر ،ثم أجبته قائ ًل: سافرنا م ًعا إلى أمريكا والعراق وسهرنا وأكلنا
-لا شيء..أجلس وحي ًدا في انتظار النوم! وشربنا وسكرنا وشهدنا الندوات والمؤتمرات .كل
هذه الحيوات راحت وأصبحت مختصرة في جثة
داخل كفن .خليل كان المدير المالي للشركة التي