Page 117 - merit 43- july 2022
P. 117

‫‪115‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫قصــة‬

    ‫علت الحير ُة وجهي‪ ،‬وأنا أعصر ذهني بعصارة‬           ‫يختلسان باقي اليوم مع أسرت ْيهما‪ ،‬حتى يلتقيان‬
 ‫من حديد لعلي أتذكره‪ ،‬دون جد َوى‪ .‬فتدفق صدره‬           ‫لي ًل‪ ،‬ويعودان سو ًّيا للكتيبة قبل طابور التمام في‬
                                                     ‫الصباح؛ و»يا دار ما دخلك شر»‪ ..‬قال يوسف المثل‪،‬‬
     ‫بضحكا ٍت متتتالية‪ ،‬وواصل وهو يشي ُح بي ِده‪:‬‬        ‫وأضاف‪« :‬خلوة شرعية لعادل‪ ،‬والأجر والثواب‬
 ‫«عندك حق تنسى‪ ..‬سنين كتيرة مرت»‪ .‬ثم اقترب‬
                                                                                           ‫عند الله»‪.‬‬
     ‫بوجهه المبتسم الأسمر ناحيتي هام ًسا‪« :‬هه‪..‬‬       ‫في طابور التمام‪ ،‬صباح اليوم التالي‪ ،‬رأي ُت «عادل»‬
     ‫ُغلب حمارك‪ ..‬مش فاكر؟»‪ .‬قلت له مستسل ًما‪:‬‬
     ‫«اعذرني يا حاج‪ ..‬طول اليوم مدرسة وتعب‪..‬‬            ‫الكهربائي مبته ًجا‪ ،‬بأفرول نظيف على غير عادة‬
‫العتب على النظر‪ ..‬فكرني من فضلك»‪ .‬رجع بظهرة‬            ‫المح ُبوسين‪ ،‬ووجهه يضج بالسعادة‪ ،‬عندما هم َس‬
    ‫للوراء‪ ،‬وشمر كم ذراعه الواسع‪ ،‬ورفع كفه في‬           ‫في أذني‪« :‬الجماعة بتدعيلك»‪ .‬لم أكن أعرف‪ ،‬وها‬
     ‫الهواء أمامي وهزه‪« :‬الشبراوي عبده»‪ .‬ردد ُت‬      ‫أنذا عرف ُت من «يوسف»‪ ،‬كيف أتحايل بفهم إنساني‬
    ‫بعده‪« :‬الشبراوي عبده!»‪ ،‬ولم أتذكر‪ ..‬فواصل‪:‬‬
‫«الجيش‪ ..‬كتيبة إمداد المياه‪ ..‬سجن الكتيبة‪ ..‬جزيرة‬         ‫‪-‬لا يخضع لقانون‪ -‬مستقب ًل في تسهيل خلوة‬
   ‫الشافعي»‪ ..‬جال ْت عناوين كلماته سابح ًة بالبنط‬         ‫شرعية لزوج ْين باعد ْت بينهما قوانين الضبط‬
  ‫العريض عكس التيار في دهاليز ذاكرتي‪ ،‬أضاء ْت‬
   ‫ظلام الذاكرة فجاة‪ ،‬وسحبتني من يدي لسنوات‬                                                  ‫والربط‪.‬‬
    ‫الجيش‪ ،‬والتجنيد البعيدة التي خل ْت‪ .‬ووجدتني‬
‫أنه ُض صائ ًحا‪« :‬يخرب عقلك‪ ..‬يا شبراوي»‪ .‬ورحنا‬                      ‫(‪1996‬م)‬
    ‫نتعانق مرة أخرى‪ ،‬و»الديداموني» ينظر نحونا‬
                                                         ‫أي حاج؟ من هذا الذي طلب لي عصير الجوافة؟‬
               ‫متعجبًا‪ ،‬ومنتظ ًرا أي طلبات أخرى‪.‬‬     ‫رفع ُت رأسي بين رءوس رواد الكافتريا‪ ،‬كان هناك‬

              ‫(‪1976‬م)‬                                     ‫فلا ٌح ثلاثيني بجلبا ٍب ريفي طويل‪ ،‬ينتعل بلغة‬
                                                        ‫فاقوسي بيضاء‪ ،‬تفترش وجهه الأسمر ابتسامة‬
    ‫ليس هناك من ُصحبة تعادل ُصحبة الجيش‪ ،‬لا‬
    ‫يعرف هذه الحقيقة في ُكل جيوش الدنيا سوى‬               ‫عريضة تحت شارب كث‪ ،‬ويلف رأسه بعمامة‬
                                                          ‫بيضاء نظيفة‪ .‬لمحني أرمقه بعين ْين متسائلتين‪،‬‬
       ‫المجندون‪ .‬أنت تستبدل أسرتك‪ ،‬وأصدقاءك‪،‬‬              ‫فرفع كفه بجوار عمامته محييًا‪ ،‬بادلته التحية‬
     ‫وحياتك‪ ،‬بزملاء وحياة الكتيبة‪ .‬زملاء الجيش‬       ‫بأحسن منها‪ .‬لم أكن أعرفه‪ ،‬لو أنه من أبناء قريتي‪،‬‬
 ‫يتدربون‪ ،‬ويتعبون‪ ،‬يخوضون المعارك‪ ،‬ويواجهون‬             ‫أو ولي أمر لطالب عندي‪ ،‬لتذكرته‪ .‬نهض ُت واق ًفا‪،‬‬
   ‫الأخطار‪ ،‬يقومون بالمهام‪ ،‬والخدمات‪ ،‬ويتناولون‬        ‫وفكر ُت في حمل كوب العصير‪ ،‬والانتقال لطاولته‬
     ‫الطعام سو ًّيا‪ ،‬ويتبادلون الحكايات‪ ،‬والأسرار‬       ‫أتعرف عليه وأشكره‪ .‬لكنه قرأ ما ي ُدور بخلدي‪،‬‬
     ‫في العنابر والساحات الرملية‪ .‬فيزدادون قر ًبا‪،‬‬     ‫وبادر بنو ٍع من الاحترام بالقدوم نحوي‪ ،‬وما إن‬
‫وحميمية‪ ،‬وتنشأ بينهم أواصر من المحبة‪ ،‬والإخوة‪،‬‬       ‫وصل أمامي حتى ارتمى في حضني كعزيز لم ألتقه‬
   ‫لا ينفصم ُعراها مع الأيام‪ .‬لهذا لم يكن غريبًا أن‬      ‫منذ سنين‪ ،‬يحيطني بساعديه القويت ْين‪ ،‬ويخب ُط‬
    ‫أرى «يوسف»‪ ،‬الذي كان يتحرق شو ًقا للعودة‬           ‫على كتفي بكفيه مرحبًا‪ ،‬يقبل رأسي العاري‪ ،‬وهو‬
    ‫لحياته الأسرية في صعيده‪ ،‬يبكي ب ُحرقة‪ ،‬وهو‬            ‫يردد‪« :‬سلامات يا أستاذ‪ ..‬والله زمان‪ ..‬ازيك؟‬
‫يحتضننا مفار ًقا الكتيبة لآخر مرة بملابسه المدنية‪.‬‬         ‫عامل إيه؟»‪ .‬عقدت الدهشة لساني مع حرارة‬
   ‫تركني وقد نجح ُت خلال فترة وجيزة في تجميل‬          ‫الترحاب‪ ،‬فلم يجد لساني ما يرد به‪ .‬جلس أمامي‪،‬‬
    ‫صورة المكتب‪ ،‬وهؤلاء الذين كانوا يخشون‪ ،‬أو‬          ‫ولسانه بالكلام العذب لا يكف‪ .‬أربكني وأخجلني‬
  ‫يتحرجون من الاقتراب‪ ،‬صاروا يترددون بجرأة‪،‬‬             ‫جهلي ح ًّقا‪ .‬لحظات الصمت‪ ،‬والحيرة‪ ،‬والدهشة‪،‬‬
       ‫بل ويبثون بلا خو ٍف شكاواهم البسيطة‪ ،‬أو‬
                                                           ‫خيب ْت آمال الرجل في كوني أعرفه‪ ،‬وأتذكره‪.‬‬
                                                      ‫ضحك بمر ٍح ُمشاغب‪ ،‬يقرب المسافات‪ ،‬وهو يسأل‬
                                                     ‫باستنكار ودود‪« :‬مش فاكرني؟ نسيتني خالص؟»‪.‬‬
   112   113   114   115   116   117   118   119   120   121   122