Page 26 - merit 42 jun 2022
P. 26

‫العـدد ‪42‬‬   ‫‪24‬‬

                                                     ‫يونيو ‪٢٠٢2‬‬

 ‫صهاري ٌج للنسيان في جبل الليل‪ .‬صباحا ٌت شاحبة‬                              ‫في شجار دائم مع السماء‬
  ‫تمسح الغبار عن أزهار الدفلى التي انتشرت فيها‬                                    ‫تراق ُبهم في خشو ٍع‬
   ‫بعد رحيلِك كالبثور‪ .‬سرطانا ُت البحر‪ ،‬القراصنة‬                                              ‫ُجثَّتي‪.‬‬

     ‫والبنادق الخشبية ما زالت تص ُل فوق «المركب‬      ‫بقي أن نتأمل ن ًّصا من نصوص الديوان‪ ،‬تظهر فيه‬
  ‫السكران» إلى ميناء التَّواهي‪ ..‬في عدن التي أردت‬      ‫سمة إضافية تتمثل في تنضيد الصورة المشهدية‬
   ‫أن تعود إليها وأنت على سري ِر الموت في مرسيليا‬       ‫العامة للمكان وأيقوناته‪ ،‬من خلال المثاقفة حول‬
 ‫«متى سأنقل على ظه ِر السفينة يا إيزابيل؟» إلا أنك‬         ‫تمظهراته في لحظة ما‪ ،‬والنص هنا ليس نص‬
‫أبحرت قبل السفينة على مركب الطوفان فكنت طائ َر‬
 ‫جلجامش‪ .‬مائة عام انقضت وها هو بيتك بسلالمه‬          ‫لحظة‪ ،‬ليس نص توثيق أو انطباع‪ ،‬ليس في الديوان‬
                                                           ‫هذا النوع من النصوص‪ ،‬لكنه نص وجودي‬
     ‫الطويلة‪ .‬مخاز ُن البضائع في الطابق الأرضي‪.‬‬
 ‫المنار ُة القديمة‪ ،‬صخر ُة الشمس‪ ،‬الشاعر الذي كنته‬    ‫بامتياز‪ ،‬فكثي ًرا ما نفكر في المكان مسكونين بهالته‬
‫في فرنسا يعود إلى الالتقاء بالقصيدة التي كنتها في‬     ‫الأسطورية‪ ،‬بتاريخه‪ ،‬وبالشخصيات الفارقة التي‬
  ‫عدن هنا في كريتر‪ ،‬تحت عباءة «الشرق كله» وفي‬          ‫سكنته أو عبرت به أو كتبت عنه‪ .‬بأبنية أثرية أو‬
                                                     ‫أيقونات ثقافية دينية أو حضارية‪ .‬لكن واقعه يكون‬
   ‫حجرات ظلِّك المتخثر‪ .‬أعر ُف أن هذا يزعجك فقد‬        ‫قد تبدل‪ ،‬لم يعد كما كان إلا في ذاكرتنا ووجداننا‬
   ‫هجرت البيوت إلى الموانئ‪ ،‬عبرت من الخطى إلى‬          ‫المشغولين به‪ ،‬وهذا مؤلم‪ ،‬شديد القسوة‪ ،‬وباعث‬
 ‫الرياح وهربت من النار إلى النور‪ .‬لكننا اليوم نق ُف‬  ‫على الحسرة والأوجاع‪ .‬عبر عنه المتنبي وهو يقول‪:‬‬
‫إلى جدار بيتك القديم ليكون بيتًا لنا‪ ..‬ولكن كم كنت‬
                                                                         ‫لك يا منازل في القلوب مناز ُل‬
                        ‫أعرف أنك تكره البيوت”‪.‬‬                            ‫أقفرت أنت وه َّن منك أواهل‬
‫غير بعيد من كل هذا يجدر أن أكرر؛ إن شوقي عبد‬
‫الأمير يحفظ تلك النصوص التي يتدفق إلقاؤها من‬          ‫وكان محمود درويش يشير إليه‪ ،‬وهو يتحدث عن‬
                                                     ‫صورة بيروت التي تبدو في شعره مغايرة لواقعها‪:‬‬
   ‫فمه بصوت ممتلىء‪ ،‬دافىء وقوي الحضور‪ ،‬كأنه‬
    ‫كتبها قبل قليل من لحظة سماعك لها في أمسية‬             ‫(لكل منا بيروته)‪ ،‬لنتأمل في هذا السياق نص‬
   ‫شعرية‪ ،‬أو جلسة مثاقفة‪ ،‬أو حتى أثناء صحبتك‬                                              ‫(الرسالة)‪:‬‬
 ‫له في الطريق‪ .‬كما يجدر بي أن أضيف جانبًا آخر‬
   ‫لا يقل إدها ًشا‪ ،‬فذاكرته تحتفظ بالملابسات التي‬          ‫“بعد سنوات عدت بصحبة غ ُّيوفك وأدونيس‬
    ‫أحاطت بكتابة كل نص‪ ،‬وهي تنسرد بتفاصيل‬              ‫وسعدي يوسف نبحث عنك بين تماثيل الأصداء‬
 ‫تثير الشغف‪ ،‬ولا تنفصل عن مخزون ذكرياته عن‬            ‫التي يمتلئ بها الليل في التَّواهي‪ .‬كان غ ُّيوفك يريد‬
 ‫اليمن عامة‪ ،‬وفي سهراتنا معه‪ ،‬لم نكن نعرف كيف‬          ‫أن يصافح جدا ًرا أو خشبًا في مشربيَّ ٍة التقت بك‬
 ‫يمر الوقت‪ ،‬فحديثه لا يجذبك بكثرة خفاياه‪ ،‬وقوة‬
   ‫دلالاتها فحسب‪ ،‬بل تجذبك طريقة السرد‪ ،‬لغتها‬             ‫يو ًما هنا‪ .‬وكان سعدي يوسف يصرخ «كيف‬
    ‫وقوة تدفقها‪ ..‬أتمنى أن نقرأ تلك السرديات في‬         ‫لا يحمل جدا ُر بيتِك اليوم إلا مخالب الشمس؟»‪،‬‬

             ‫كتاب آخر ننتظره على أحر من الجمر‬             ‫في حين يهم ُس أدونيس «عاش رامبو في عدن‬
                                                       ‫وكان يقرأ القرآن؛ أجل أخبرني النفري»‪ .‬لا عدن‬
                                                        ‫المعسكر‪ ،‬ولا فندق العالم ولا بي ُت باردي تقتر ُح‬
                                                       ‫شيئًا لحير ِتنا‪ .‬إلا عيو ُن الجبال المر َّمد ِة التي ترى‬
                                                      ‫كل شيء ولا تقول شيئًا‪ .‬عدن «الصخرة البشعة»‬
   21   22   23   24   25   26   27   28   29   30   31