Page 106 - m
P. 106
العـدد 60 104
ديسمبر ٢٠٢3
حسن حميد
(فلسطين -سورية)
ميسون!
وأحمده حين أغادرها بلا منغصات ،بلا خوف، ها قد جئ ُت إليها..
على موعدها تما ًما.
كنَّا مثل عصفورين ،هي تأتي لي ببعض قطع كانت أشبه بشجرة صفصاف هاربة من الغابة
الحلوى ،وأنا آخذ لها حفنة من فستق العبيد الذي الوسيعة الخضراء ج ًّدا التي تحيط بالبيت! شجرة
صفصاف ملأى بالوشوشات والهمهمات حين
يزرعه أبي ،فستق ما زال في أجراسه .تقول لي
تتحدث.
قطعة الحلويات هذه لم يذقها أحد ،وأقول لها وهذا لقد عرفتها ،حين سكنت في حارتنا .كانت ابنة رجل
الفستق لم تره عين بعد! امتهن التجارة ،فعرف التنقل من مكان إلى مكان،
وكانت وحيدته ،أ ُّمها أشبه بمنارة الشط ،كائن
يا لذلك المكان ال ِّسراني الذي كنت ألتقيها فيه ،ويا طويل جميل محتشد بالألوان والأسرار.
للحظات الآمنة التي عشتها بقربها ،ولا شيء ين ُّد عرفتها طالبة تقرأ في كتب الشهادة الثانوية ،في
عنا سوى وشوشات وهمسات وتمتمات وتصويت شهور الصيف ،وحين فتحت المدرسة الثانوية
أبوابها لنا كانت طالبة في صفنا ،وقد احترنا
للنقر على الخدود ،وتحويمات حول الشفاه ،التي بجمالها طلا ًبا وأساتذة وطالبات فقد بدت لنا
لولا الحياء لأضاءت عتمة المكان! كن ُت ألتقيها في جمي ًعا نبا ًتا بر ًّيا لا يشبه نباتات الدور والبساتين
الحمام الروماني القديم الذي ما عاد ح َّما ًما لكثرة التي نعرفها ،كانت طويلة ،ذات وجه محير في
ما أصابه من الخراب ،والذي ما عاد باد ًيا للعيان
استدارته ،وجه وردي مشوب ببياض من الصعب
لكثرة ما أحاطت به شجيرات الطيون والسعد وصفه ،ولها أجفان راجفة ،وأنف مرفوع ،وشفتان
والحلفا ونبات العلتة والقرة والحميضة ،كان مكا ًنا لهما ملأة مدهشة ،وعينان زيتونيتان لامعتان
ساكنًا ،هاد ًئا ،ومخي ًفا لأن ما شاع بيننا منذ كنَّا بنداوة بارقة على الدوام!
أطفا ًل أنه مكان مسكون بالجن والعفاريت التي
لم تكن مدهشة في اجتهادها ،ومع ذلك ،وفي آخر
تخرج من سواقي الماء باحثة عن ضحاياها ،ولكم السنة ،وبعد امتحانات طال انتظارها نجحت،
كنَّا نخاف من بنات الماء لي ًل.
وأصابت علامات أكثر من علاماتنا ،ثم وفي ساعة
ميسون ،وهذا اسمها ،كانت تخاف من المكان أي ًضا واحدة رحلت مع والديها.
لأن رفيقاتها أخبرنها بالعفاريت والج ِّن وبنات الماء
اللواتي يخرجن لي ًل من سواقي الحمام الروماني، لا أدري كيف تعلقت بها ،وكيف تعلَّقت بي.
كن ُت ألاقيها في العتمة التي تحيط ببيتهم ،وقد
ولهذا خافت المكان أول الأمر حين اقتدتها إليه أضاءت صورتها قلبي ،آخذها إلى صدري همهم ًة،
وتأخذني إلى صدرها همهم ًة .ولكم كن ُت أشكر ربي
طلبًا للأمان لي ولها .قالت :الحمام الروماني ..لا،
قلت :تعالي ،ولا عليك ،نحن ،ولشقاوتنا أشعنا أن
العفاريت والج َّن وبنات الماء يعيشون في الحمام
الروماني ،كي لا يقترب منه أحد في الليل ،وأمهاتنا
عززن فكرة الخوف من الحمام وما فيه كي نك َّف