Page 108 - m
P. 108

‫العـدد ‪60‬‬   ‫‪106‬‬

                                                             ‫ديسمبر ‪٢٠٢3‬‬

‫أرى ميسون تدخل عليَّ‪ ..‬مثل أ ِّي مريضة صاحبة‬                 ‫ثقيل موجع! فأنا ذهب ُت إلى الجامعة‪ ،‬وأبي تر َّقى في‬
                                      ‫شكوى!‬                    ‫وظيفته‪ ،‬وأ ِّمي الممرضة طاب لها العمل في مشفى‬
                                                                ‫المدينة الكبير‪ .‬وما عدت أفكر بـ ميسون‪ ،‬لأن أ َّي‬
  ‫سمع ُت طقطقة كعبي حذائها وهي تدخل‪ ،‬وكن ُت‬                      ‫تفكير بها عبث ليس إلا‪ ،‬فقد م َّرت بنا السنوات‬
‫أكتب بيانات المريض الذي سبقها‪ ،‬ثم رفعت نظري‬
                                                             ‫مرور البرق‪ ،‬تخرج ُت من الجامعة وغدوت طبيبًا لي‬
    ‫حين انتهيت من الكتابة‪ ،‬عف ًوا‪ ،‬حين ك َّف كعبا‬            ‫عيادة‪ ،‬ويافطة ناطقة باسمي‪ ،‬وقد اهتممت باليافطة‬
‫حذائها عن الطقطقة! رفع ُت نظري إليها‪ ،‬ورأيتها‪،..‬‬              ‫كثي ًرا لا لطلب الشهرة والدعاية وإنما لأمنية راحت‬
‫فتاه بصري‪ ،‬ورجف جسدي كلُّه‪ ،‬وقلبي يسألني‪:‬‬
                                                                  ‫تقرع قلبي في ك ِّل آن‪ ،‬حتى صارت رجا ًء‪ ،‬لعل‬
‫أهي‪ ..‬أم ليست هي! بدت لي مثل أجمة نعناع فوق‬                       ‫ميسون تم ُّر بالعيادة يو ًما وتقرأ اسمي‪ ،‬فيح ُّط‬
                                                             ‫قلبها قربي مثل طائر أعياه الطيران والهواء اللعوب!‬
‫الكرسي‪ ،‬بهرتني رؤيتها‪ ،‬ولم أستطع النهوض!‬                       ‫وقد علَّقت حياتي كلَّها على أمل مرور ميسون بي‬
                                                                 ‫يو ًما‪ ،‬لذلك لم أنح ِن لدعوات أ ِّمي ولا لرجاءاتها‬
                        ‫قلت متمت ًما بخفوت حي ٍّي‪ :‬ميسون!‬      ‫أن أتزوج‪ ،‬ولم أجب عن سؤالها الذي بات شكو ًكا‬
                            ‫فهمهمت باسم ًة دامعة‪ :‬نوفل!‬
                                                                                        ‫وأقاويل‪ ،‬ماذا تنتظر؟!‬
‫يا رب هذه الدنيا‪ ،‬يا رب الخلق‪ ..‬ما الذي يحدث؟!‬                 ‫كن ُت ولم أزل‪ ،‬عاش ًقا لذلك المكان المخيف‪ ،‬الحمام‬
                                                              ‫الروماني‪ ،‬حين كن ُت أنتظر قدوم ميسون إل َّي حالما‬
  ‫وما هذه المناولة المدهشة بسلتك ال َّسماوية‪ ،‬وما‬            ‫تدلهم العتمة كي أتحول إلى كائن من شوق‪ ،‬ولهفة‪،‬‬
‫الذي رميته إل َّي‪ ،‬وناظرتها‪ ،‬وحاولت النهوض بك ِّل‬                ‫ووشوشات‪ ،‬وحنين‪ ،‬ور َّقة‪ ،‬فلم أسع إلى شهرة‬
                                                               ‫أو ظهور بعي ًدا عن عملي كطبيب‪ ،‬وكن ُت على قناعة‬
‫عزمي‪ ،‬فلم أستطع‪ ،‬فصرخت في أعماقي مستنج ًدا‪،‬‬                     ‫لا أدري من أين يأتي توكيد نفسي عليها‪ ،‬بأنني‬
 ‫يا رب لا تخذلني‪ ،‬أرجوك اقذف القوة في جسدي‪،‬‬                    ‫سألتقي ميسون في يوم من الأيام حتى لو غدو ُت‬

‫ُنومحاوعيادب بطيونليها‬  ‫ودعني أنهض‪ ،‬فها هي تق ُف‪ ،‬وتتقدم‬                             ‫شي ًخا وغدت هي عجو ًزا!‬
                        ‫العالي‪ ،‬يا رب ها هي تدنو مثل دالية‪،‬‬                   ‫لكن الأقدار كانت أسرع وأرحم!‬
                                                               ‫لقد ذهب ُت مع أصدقاء لي إلى ندوة تلفزيونية‪ ،‬لكي‬
          ‫وبينها سوى ذراع‪ ..‬ساعدني‪ ..‬أرجوك!‬                      ‫نتحدث عن الجائحة التي ل َّفت بأخبارها المحزنة‬
  ‫لحظتئ ٍذ‪ ،‬لا أدري َمن أقتحم َمن‪ ،‬و َمن نادى َمن‪،‬‬                ‫العالم كلَّه‪ ،‬كنَّا مدعوين لساعة تلفزيونية‪ ،‬لكن‬
‫و َمن غمر َمن‪ ،‬و َمن طوى َمن‪ ،‬و َمن أبكى َمن‪ ،‬و َمن‬             ‫الأسئلة الكثيرة‪ ،‬جعلت القناة التلفزيونية تعطينا‬
                                                                ‫نصف ساعة إضافية أخرى‪ ،‬ثم إن نجاح الندوة‬
                                                                  ‫جعل القناة تعيد بث الندوة م َّرات وم َّرات‪ ،‬وفي‬

                                                                                              ‫أوقات مختلفة‪.‬‬
                                                                 ‫وكن ُت سعي ًدا بأخبار الندوة‪ ،‬وما تركته من أثر‬
                                                                  ‫طيب في نفوس الناس‪ ،‬لكن الأثر الأكثر طيابة‪،‬‬
                                                                  ‫والأكثر جنو ًنا‪ ،‬كان سح ًرا أو يكاد‪ ،‬ذلك لأنني‬

                                                                                              ‫التقي ُت ميسون!‬
                                                                                ‫فقد جاءت ميسون إلى عيادتي!‬
                                                               ‫ميسون الطويلة‪ ،‬الملأى‪ ،‬الجميلة‪ ،‬صاحبة الأجفان‬
                                                                 ‫ال َّراجفة‪ ،‬والعينين الزيتونيتين‪ ،‬المنديتين بالدمع‬
                                                                              ‫البَّارق‪ ،‬جاءت إل َّي بعد أيام طوال!‬
                                                               ‫ياااه‪ ..‬لذلك المساء ما أرحبه‪ ،‬وما أكثر نوره‪ ،‬وأنا‬
   103   104   105   106   107   108   109   110   111   112   113