Page 107 - m
P. 107

‫‪105‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫القصة‬

 ‫كي تتذكرني‪ ،‬فأنا راحلة مع أهلي غ ًدا صبا ًحا لأن‬         ‫عن المناوشات والحديث والضحك‪ ..‬وننام لي ًل‪.‬‬
  ‫أبي انتقل عمله إلى مكان جديد؛ وصمتت ملهوث ًة‪.‬‬       ‫يااه‪ ..‬لتلك اللقاءات المسائية التي بلَّلت روحي وروح‬
                                                       ‫ميسون‪ ،‬يا لبهجته الكاملة‪ ،‬كانت المجنونة تعانقني‬
    ‫كدت أفقد أنفاسي في لحظة واحدة‪ ،‬وأنا أسمع‬
   ‫وشوشات ميسون وتمتماتها‪ ،‬وكادت هي تفقد‬                    ‫كما لو أنني طير سأف ُّر من بين يديها‪ ،‬وكن ُت‬
   ‫أنفاسها في لحظة واحدة لأنها ستفارقني أي ًضا!‬       ‫أعانقها بوحشية كما لو أن خل ًقا كثيرين ينافسونني‬

      ‫لحظتئ ٍذ‪ ،‬انفتح باب الجحيم‪ ،‬وبدت بنات الماء‬      ‫على عناقها في بهمة الليل الغامقة‪ ،‬وما كن ُت أتركها‬
‫أمامي وهن في رواح وغدو‪ ،‬بدون نشيطات يحملن‬                 ‫إلا قتيلة أو تكاد‪ ،‬وما كانت تتركني إلا قتي ًل أو‬
                                                         ‫أكاد‪ ،‬كنَّا‪ ،‬وفي ك ِّل ليلة ندمر روحينا خلال وقت‬
     ‫جرار الماء‪ ،‬شامرا ٍت لأثوابهن‪ ،‬فبدت أقدامهن‬
  ‫التي تشبه أقدام الماعز تضيء كلما ن َّقلن خطوهن‬        ‫برقي في لحظاته وطوله‪ ،‬ما كان يبدأ حتى ينتهي!‬
                                                       ‫يا للعشق‪ ،‬فهو مولود خارج الوقت‪ ،‬مولود يعرف‬
    ‫العجول‪ ،‬وراحت العفاريت تشاغب علينا‪ ،‬ودار‬
   ‫الج ُّن حولنا‪ ،‬ورحنا نرى ومضات من نور تم ُّر‬                             ‫الطعوم ولا يعرف الأزمنة‪.‬‬
 ‫بنا‪ ،‬فخف ُت وخافت ميسون‪ ،‬ولم يكن لنا من نجاة‬              ‫ما كانت ميسون تنقطع عني أو أنقطع عنها إلا‬
                                                      ‫عندما يأتي والدها إلى البيت‪ ،‬والدها صاحب الطلعة‬
      ‫سوى أن أدفن رأسها في صدري لأنها كانت‬              ‫التي لا تخلو من وهرة ومهابة‪ ،‬ثلاثة أيام أو ستة‬
   ‫تهمهم‪ :‬النور‪ ..‬النور‪ ،‬وأن أغمض عين َّي‪ ،‬فبدونا‬         ‫أيام من الغياب المسائي تم ُّر عليَّ‪ ،‬فأشعر بثقلها‬
 ‫كائنين من عماء وحواس وخوف ووشوشات‪ ،‬ما‬                     ‫ومرارتها وكربها‪ ،‬فلا تملأ روحي إلا بالتذمر‬
 ‫كنت وإياها قادرين على مغادرة المكان أو الحركة‪،‬‬         ‫والضجر والأسئلة وأنا أرى ميسون‪ ،‬في المدرسة‪،‬‬
  ‫لكن وما إن شعر أحدنا بالدفء يتسرب إليه من‬            ‫نها ًرا مثل طائر يح ِّوم في الفضاء بحثًا عن الماء فلا‬
   ‫جسد الآخر حتى عدنا إلى الطمأنينة التي عادت‬            ‫يجده‪ ،‬كانت تأتي إل َّي بما حمله والدها من أطعمة‬
    ‫إلينا‪ ،‬فط َّوق أحدنا الآخر‪ ،‬ثم طاف حوله ليراه‪،‬‬     ‫وأشربة حالما يغادر‪ ،‬وأحيا ًنا تأتيني بما حمله إليها‬
  ‫ثم أخذه بقوة وش َّده إليه أكثر‪ ،‬قالت لي‪ ،‬ووجهها‬     ‫من أقلام وأوراق‪ ،‬فتعطيني‪ ،‬وآخذ منها طم ًعا بلمس‬
‫يطوف في وجهي‪ :‬لن أنساك ما حييت‪ ،‬لقد أعطيتك‬              ‫يديها! يا لميسون كيف تصير ور ًدا لم نعرفه‪ ،‬ولم‬
 ‫روحي‪ ،‬فكنت ثوبها‪ ،‬ولن أنسى جمال هذا الثوب‬            ‫نره‪ ،‬ولم نسمع به حين يعود والدها من سفره! ويا‬
‫يا نوفل‪ ،‬بعد أن أقنعت نفسي أن لا حياة لي سوى‬           ‫لميسون‪ ،‬كم تطيل في الحديث عن محبة والدها لها!‬
 ‫هذه الساعة التي سأقضيها معك! وقلت لها‪ :‬حين‬
    ‫سترحلين سترتحل الأشياء والكائنات الجميلة‬                              ‫فأشعر أنه غريمي في عشقها!‬
  ‫والأحلام! وسأظ ُّل وفيًا لك يا ميسون! وفيًا لك ِّل‬    ‫فجأة‪ ،‬وبعد انتهاء العام الدراسي‪ ،‬رحلت ميسون‬

                             ‫شيء منحتني إياه!‬             ‫مع أسرتها‪ ،‬ولم أعرف خبر عزمهم على الرحيل‬
                       ‫وغادرت ميسون صبا ًحا‪.‬‬            ‫إلا قبل ليلة واحدة‪ ،‬حين جاءت إل َّي‪ ،‬فالتقينا قرب‬
   ‫سيارة كبيرة جاءت إلى بيتهم مبكرة‪ .‬أخذت ك َّل‬         ‫الحمام الروماني‪ ،‬جاءتني مثل كتلة من نار‪ ،‬قالت‬
 ‫شيء‪ ،‬حين أخذت ميسون التي غافلت ك َّل شيء‪..‬‬            ‫لي‪ ،‬وهي تندفع إلى صدري‪ :‬أنا لك يا نوفل‪ ،‬خذني‬
‫ورمت ذراعها في الهواء ال َّرحب ول َّوحت لي‪ ،‬فل َّوحت‬  ‫إليك‪ ،‬ولا تتركني إلا أنفا ًسا عطشى أستطيع العودة‬
‫لها‪ ..‬وقلبي يبكي‪ ،‬مضت ال َّسيارة حتى غابت عني‪،‬‬           ‫بها الى البيت فقط‪ ،‬عانقني‪ ،‬ودعني أعانقك‪ ،‬فهذه‬
   ‫ومضيت قاب ًعا في عتمة‪ ،‬لكأنني آويت إلى مغارة‬
 ‫خديج التي نخافها‪ ،‬وأنا لا أدري من قادني إليها‪،‬‬           ‫الليلة ستذكرها طوي ًل‪ ،‬لأنني سأذكرها طوي ًل‪،‬‬
 ‫فقد وعيت على نفسي وأنا منكمش على نفسي ط ِّي‬            ‫لقد جئت إليك مودع ًة‪ ،‬هذا (حلق) أذن َّي‪ ،‬واسوارة‬
                                                       ‫معصمي‪ ،‬وسلسلة عنقي الذهبية‪ ،‬وقلمي‪ ،‬ودفتري‬
                                   ‫عتمة مطبقة‪.‬‬          ‫الذي كتب ُت فيه ك َّل شيء عني وعنك‪ ،‬وهذا منديلي‬
                      ‫ولم ألتق بـ ميسون بعدئ ٍذ!‬         ‫الذي كان الأقرب إلى نحري‪ ،‬والذي قبَّلني طوال‬
   ‫لم أعرف أخبارها‪ ،‬فأنا وأهلي تركنا البلدة أي ًضا‬
‫مثلما تركتها ميسون في ساعة مبكرة من نهار آخر‬              ‫سنة كاملة‪ ،‬وهذه كنزتي الوردية التي أحببتها‪،‬‬
                                                        ‫جئ ُت بها كلِّها إليك في هذه ال ُّصرة كي تحتفظ بها‪،‬‬
   102   103   104   105   106   107   108   109   110   111   112