Page 112 - m
P. 112

‫العـدد ‪60‬‬   ‫‪110‬‬

                                                    ‫ديسمبر ‪٢٠٢3‬‬

‫سمير المنزلاوى‬

‫شرخ‬

        ‫يسعل أحدهم أو يتنحنح لأفسح له المكان‪.‬‬          ‫مهما أسهبت فى وصف ألم الدقائق التى أقضيها‬
 ‫تداخلت الأصوات تفصح عما يجرى لأصحابها فى‬              ‫فى المرحاض‪ ،‬فلن تسعفنى اللغة لأنها فى النهاية‬

   ‫بيوت الأدب‪ ،‬واتضح أن تلك العملية التى يتأفف‬                     ‫محايدة تجاه الملموس والمحسوس‪.‬‬
      ‫الناس من الحديث عنها‪ ،‬ولا تظهر فى الأفلام‬       ‫لا تستهن كقارئ بما أعانيه‪ ،‬وتقول فى سرك‪ :‬ما‬
                                                     ‫هذا الهراء‪ ،‬وماذا تساوى دقائق فى خضم الوقت؟‬
 ‫والمسلسلات‪ ،‬هى عالم خصب ومشحون بالأفكار‬              ‫قد تكون مح ًّقا‪ ،‬لكننى سأكمل لحضرتك‪ ،‬إن الألم‬
                                      ‫والأخيلة‪.‬‬
                                                         ‫الرهيب يصاحبنى بعد الخروج لساعات‪ ،‬وقد‬
 ‫ونازعتنى نفسى أن أجرى عملية جراحية قيل إنها‬        ‫يستمر حتى يسلمنى إلى المرحاض مرة أخرى‪ .‬وهو‬
                                        ‫بسيطة‪.‬‬       ‫من نوع خاص بالأماكن الحساسة المخجلة‪ ،‬يشمل‬

      ‫لم أفلح فى تجاوز الخجل وعرض ذلك الجزء‬                                    ‫وخ ًزا ولس ًعا وحرقة‪.‬‬
   ‫العجيب أمام الطبيب والممرضات‪ ،‬وقلت لنفسى‪:‬‬           ‫الأطباء قرروا أنه شرخ‪ ،‬لذا فهو مفتوح وملتهب‬
‫‪ -‬الأصل فى الأشياء الألم‪ ،‬ولا أذكر الآن من القائل‪:‬‬
                                                           ‫طول الوقت لكثرة الاستعمال‪ ،‬وهكذا كرهت‬
             ‫لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم‪.‬‬                      ‫المراحيض وتعلمت كتمان الحاجة‪.‬‬
  ‫ذات ليلة ذهبت إلى المقهى متحام ًل على نفسى من‬
                                                    ‫لاحظ من يجلسون معى كثرة تململى‪ ،‬فتجرأ أحدهم‬
    ‫شدة الوخز وعاز ًما أن أقاوم التململ‪ ،‬فلم أجد‬        ‫ذات مرة وسألنى‪ ،‬وكنت أتوق للبوح فاندفعت‬
   ‫صديقى المستمتع‪ ،‬وابتسمت متخي ًل إياه جال ًسا‬
                                                       ‫أشكو خو ًفا من إساءة الظن‪ ،‬حتى دمعت عيناى‪.‬‬
     ‫على قاعدة المرحاض يتلمظ‪ ،‬لكنهم قالوا إنه فى‬                  ‫قال الصديق دون أن يقصد إهانتى‪:‬‬
     ‫المستشفى‪ .‬اتفقنا على زيارته فى الصباح‪ ،‬لكن‬
 ‫سيارة إسعاف حملته مبك ًرا حتى المقابر‪ ،‬فى غمرة‬         ‫تصور أن ألذ لحظاتى تكون حال جلوسى على‬
    ‫مشاعرى المتضاربة ودموعى المتحجرة‪ ،‬وجدت‬            ‫المرحاض‪ ،‬تتوالى أمامى صور الحاضر والماضى‪،‬‬
     ‫نفسى بلا أدنى إرادة ‪-‬حين أنزلوه إلى القبر‪-‬‬      ‫ولا تؤاخذنى‪ ،‬أشعر بالمتعة بل وأتمهل طوي ًل‪ ،‬وقد‬

              ‫أسعل وأتنحنح بصورة لافتة للنظر‪.‬‬
   107   108   109   110   111   112   113   114   115   116   117