Page 128 - m
P. 128

‫العـدد ‪60‬‬   ‫‪126‬‬

                                                     ‫ديسمبر ‪٢٠٢3‬‬

‫رشا سنبل‬

‫نبوءة غراب‬

   ‫التالي‪ ،‬رأيا المنزل دون مساس‪ ،‬كان الطفل نائ ًما‪،‬‬          ‫كرهبان أتوا‪ ،‬فاقوا قدرتي على العد‪ ،‬وقفوا‬
    ‫ومحا ًطا بحلقة كثيفة من الغربان رعته‪ ،‬وعلمت‬          ‫بخشوع المصلين في صلاة جامعة‪ ،‬أحدهم على‬
   ‫من كتاب استعرته من المدرسة أن ذلك الطائر ذا‬           ‫الأرض والبقية حوله يودعونه في احترام‪ ،‬ليس‬
‫الريش الأسود والنعيق الحاد‪ ،‬مخلص لزوجته‪ ،‬ولا‬               ‫بهم دمامة كما كنت أظن‪ ،‬رغم سواد الريش‪،‬‬
 ‫يتزوج إلا لو فقد رفيقته‪ ،‬قلت لنفسي‪ ،‬يا ليته أبي‪،‬‬         ‫والصوت النحاسي الحاد‪ .‬بدأت مراسم الدفن‬
‫فهو تزوج وصادق نساء بعدد شعرات أمي‪ ،‬قبل أن‬              ‫في هدوء‪ ،‬فتسربت لي هيبة الموت‪ ،‬الحفر والستر‬
‫تتطلق منه! تابعتهم وهم يحلقون‪ ،‬فنعق لي أحدهم‪:‬‬          ‫بالأرض‪ ،‬مثل ما علم غراب ابن آدم كيف يواري‬
 ‫من خلال أعداد الغربان ستتعلمين التنبؤ! ثم ابتعد‬     ‫جسد أخيه‪ ،‬وهو يقف متحس ًرا! فالقتل فعل قميء‪،‬‬
 ‫ناش ًرا جناحيه الأسودين‪ ،‬وكما تلقنت العد تعلمت‬        ‫أن تلقي أخاك بحجر‪ ،‬أن تغرز سكينًا في قلبه‪ ،‬أن‬
                                                        ‫تفتك بأحلامه‪ ،‬أن تخدعه‪ ،‬أن تخونه‪ ،‬كلها طرق‬
                                         ‫التنبؤ‪.‬‬          ‫للقتل‪ ،‬نتيجتها واحدة‪ ،‬زهق الروح التي تسير‬
                                                         ‫بالجسد‪ ،‬شعرت بالحزن لمصابهم‪ ،‬فألقيت لهم‬
          ‫واحد يعني الأسف‬                            ‫بعض من حبوب قمح جلبتها أمي لعمل بليلة‪ ،‬أردت‬
                                                      ‫مشاركتهم في رحيل رفيقهم‪ ،‬ولم أعلم أن للغربان‬
   ‫حام أحدهم قريبًا من منشر الغسيل‪ ،‬وقفت ولم‬
    ‫أهشه‪ ،‬انتصب ونعق بعزم‪ ،‬فعرفت أنه ينذرني‬                    ‫كل تلك الذاكرة القوية من حفظ الجميل!‬
    ‫بموت جدي‪ ،‬مادت الأرض يومها تحت أرجلنا‪،‬‬           ‫حين رأيت أحدهم لأول مرة يقف على طرف النافذة‬

  ‫وعصف الحزن بقلوبنا‪ ،‬بكت أمي بلوعة‪ ،‬لم أعهد‬          ‫طردته بهمة ممتلئة بالخوف من نعيقه‪ ،‬فهو حت ًما‬
 ‫أني رأيتها فيها يو ًما ما‪ ،‬الباب ُكسر‪ ،‬هكذا وصفت‬      ‫نذير شؤم‪ ،‬هكذا تعلمت من حكايات عديدة‪ ،‬طائر‬
  ‫موت والدها‪ .‬كنت هممت لإيقاظ جدي للغداء المعد‬          ‫تغويه السرقة‪ ،‬لولا صوته الذي فضحه لانطلت‬
‫على المائدة‪ ،‬غمرت الغرفة رائحة الطعام الذي يحبه‪،‬‬
                                                           ‫خدعة ريش الطاووس على غيره من الطيور‪،‬‬
   ‫ولم يبد أي صوت أو حركة‪ ،‬ظننته يلاعبني كما‬            ‫قالت لي أمي‪ :‬إن من يراه في الحلم ُيصاب بالهم‬
‫أعتاد‪ ،‬لكن السكون طال‪ ،‬لم يضحك‪ ،‬لم يقبلني على‬
‫خدي في حنو‪ ،‬لم يد ُع لي‪ ،‬لم يتكلم معي‪ ،‬وارتسمت‬            ‫والحزن‪ ،‬وأخبرتني جارتنا العجوز آليكسندرا‬
                                                      ‫ذات الأصول الأجنبية‪ ،‬وهى تعطيني بعض الكعك‬
    ‫على شفتيه بسمة رائقة‪ ،‬قال الموت كلمته‪ ،‬رحل‬        ‫لجلبي لها ما احتاجته من السوق‪ :‬إنه يزور جهنم‬
      ‫جدي دون ألم يذكر‪ ،‬ورغم معرفتي من نعيق‬          ‫في منتصف الصيف كل عام‪ ،‬ويدفع راتبًا للشيطان‬
                                                     ‫مجموعة من ريشه‪ .‬بينما حدثتني صديقة لي بوذية‬
    ‫الغراب بما سيحدث إلا أن الأمر فاجأني‪ ،‬وخلع‬
 ‫فؤادي‪ ،‬وبعد الانتهاء من مراسم الدفن‪ ،‬حام حولي‬           ‫عبر الإنترنت عنه‪ ،‬إنه طائر عظيم‪ ،‬فعند ظهور‬
  ‫ظ ٌّل مظلم‪ ،‬ارتعد جسدي‪ ،‬فنعق الغراب ثانية وهو‬          ‫الدالاي لاما الأول‪ ،‬تعرضت عائلته للهجوم من‬
                                                       ‫قبل اللصوص‪ ،‬وهرب الوالدان قبل أن يتمكنا من‬
    ‫يحلق بعي ًدا‪ ،‬يحذرني من ذلك الظل‪ ،‬ألا يأخذني‬         ‫الوصول إلى الطفل‪ ،‬وحين عادا في صباح اليوم‬
                       ‫ويشتتني عن عد الغربان‪.‬‬
   123   124   125   126   127   128   129   130   131   132   133