Page 138 - m
P. 138

‫العـدد ‪60‬‬   ‫‪136‬‬

                                                   ‫ديسمبر ‪٢٠٢3‬‬

‫إنتصار السري‬

‫(اليمن)‬

‫هروب جثة‬

    ‫تفاحة مقضوم نصفها‪ ،‬يلتهمها فيسكت صراخ‬                 ‫تسللت خيوطها عبر شقوق الستائر‪ ،‬تغازل‬
                                         ‫معدته‪.‬‬      ‫شعيرات صدره العاري‪ ،‬يشعر بوخزاتها‪ ،‬يتقلب‬
                                                   ‫على طرفي السرير‪ ،‬بكسل يفتح عينيه‪ ،‬لا يعرف كم‬
    ‫فتح أغنية لفيروز من جهازه المحمول لا صوت‬       ‫لبث نائ ًما‪ ،‬هل لبث يو ًما أم يومين في غياهب النوم؟‬
    ‫ينبعث منه‪ ،‬هل سكت صوت فيروز؟! أم توقف‬
 ‫الجهاز عن عمله؟ حاول رفع مكبر الصوت‪ ،‬خوف‬                            ‫يحاول استجماع شتات أفكاره‪.‬‬
‫يغزو قلبه‪ ،‬يرتدي ثيا ًبا نظيفة من دولابه على عجل‪،‬‬    ‫ما زالت أحداث تلك الليلة تطوقه‪ ،‬صوت الدراجة‬
                                                    ‫النارية وهي ترتطم بعمود الإضاءة‪ ،‬وتطايرها إلى‬
                                   ‫يغادر منزله‪.‬‬    ‫أشلاء على جانبي الشارع تلاحقه‪ ،‬ظن أن ما حدث‬
     ‫وسط الشارع أطفال يلعبون‪ ،‬أشخاص يأتون‬           ‫ليس إلا كابو ًسا ما زالت أحداثه مستمرة‪ ،‬تطارده‪،‬‬
‫ويذهبون‪ ،‬باعة متجولون تتحرك شفاههم وأيديهم‬          ‫تفقد أجزاء جسده التي بعثرها الاصطدام‪ ،‬أصابع‬
   ‫دون صوت‪ ،‬سيارات لا أبواق لها‪ ،‬لا ينبعث من‬        ‫يده العشرة مكتملة‪ .‬حم َد الله على تلك النعمة‪ ،‬آثار‬
  ‫مذياع القهوة التي في ناصية الشارع أي ضجيج‪.‬‬
    ‫مجرد حياة تعبر في صمت‪ ،‬فيلم صامت يعيش‬                            ‫كدمات زرقاء في فخذه الأيسر‪.‬‬
  ‫بطولته‪ ..‬صمت يقتل كل ما حوله‪ ،‬يفرك أذنيه‪ ،‬لا‬     ‫نظر نحو المنبه‪ ،‬أدرك تأخره عن موعد عمله‪ ،‬تعجب‬

                            ‫شيء غير السكوون‪.‬‬        ‫لعدم سماعه صوت المنبه‪ ،‬نفض عنه لحافه‪ ،‬وقف‬
     ‫أمام محل عمله‪ ..‬ابتاع جريدة الأيام من كشك‬     ‫أمام المرآة‪ .‬خدوش تغطي وجهه كلوحة سريالية لم‬
    ‫الحرية‪ ،‬تصفحها‪ ،‬قرأ أبرز عناوينها‪ ،‬استوقفه‬     ‫تتضح معالمها بعد‪ ،‬ذراعه تؤلمه‪ ،‬توجه نحو الحمام‪،‬‬

                      ‫عنوان في صفحة الحوادث‪:‬‬          ‫ينساب ماء الدش على جسمه فيشعره بانتعاش‪،‬‬
     ‫«ما زال البحث عن جثة سائق الدراجة النارية‬      ‫فرك رأسه وجسمه ليزيل ما تخثر من دماء عليه‪،‬‬

                  ‫مستم ًرا» من سطور الخبر قرأ‪:‬‬        ‫تساقطت خصلات من شعره‪ ،‬كانت تنساب مع‬
     ‫شاب عشريني كان يقود دراجة نارية بسرعة‬            ‫المياه ورغوة الشامبو على جسده‪ ،‬يصغي سمعه‬
   ‫هستيرية‪ ،‬اصطدم بعمود إنارة‪ ،‬أدى الحادث إلى‬       ‫لصوت خرير الماء لا شيء غير الصمت! يلعن ذلك‬
   ‫وفاته والفتاة التي معه‪ ،‬لا زال سر اختفاء جثته‬
  ‫لغ ًزا حير رجال البحث الجنائي‪ ،‬كما تم نقل جثة‬                                           ‫الصمت‪.‬‬
                                                    ‫يعود إلى غرفته‪ ،‬ثيابه مبعثرة فوق أرضية الغرفة‬
                    ‫الفتاة إلى المشرحة العمومية‪..‬‬   ‫ملطخة بالدماء‪ ،‬على قميصه حلق من الذهب عالق‪،‬‬
  ‫تهاوت الجريدة من بين يديه‪ ..‬تساقطت أطرافه‪..‬‬
‫انسلخ لحم جسده‪ ..‬عم الشارع رائحة جثة متعفنة‪.‬‬              ‫تناثرت كتبه بجوار بقايا فناجين قهوة فوق‬
                                                     ‫الطاولة‪ ،‬على أحدها آثار أحمر شفاه‪ ،‬تمتد يده إلى‬
   133   134   135   136   137   138   139   140   141   142   143