Page 111 - merit 48
P. 111
109 إبداع ومبدعون
قصــة
وكأنني سأعيد رسم طفولته ،أعيد خلقه مرة أغطيه بوشاح استعرته من زميلتي الفلبينية «ماي»
أخرى .خلق بابا .بابا الذي رحل إلى الكويت وقت أن كنت أستعد لليلتي الأخيرة في «حولي».
وكأنه مات .لسنوات طويلة كنا نسمع صوته على عدنا في المساء في سيارة «ماي» بعد العمل .إن
الهاتف ،وهو يعدنا بزيارات ،ثم يخطئ الميعاد.
وينفلت الزمن بين أصابعنا .أقول لأصحابي إن أبي علمت أمي أنني استعرت وشا ًحا للامتني .أمي لا
سيمضي معنا إجازة نصف العام وسنزور الأقصر تدرك أن استعارة أي شيء ليست عيبًا هذه الأيام.
وأسوان .أمزج قص ًصا كثيرة خيالية حول أبي.
أجدل من كلمات أمي وخالتي وربما آخرين حبا ًل قلت لـ»ماي»:
موصولة مع أبي لم تستطع أمي استيعابها .وكانت “طائرتي ستغادر غ ًدا ولا أملك وشا ًحا مناسبًا.
تغضب وتقول عني: أمي أخذت معها كل ملابسها”..
“البت دي سوسة .معجونة بمية الكذب”. لم أسترسل أكثر« .ماي» زميلة عمل ولا تحتاج إلى
الآن الممرضة تعيد ترتيب وضع السرير .جدتي
بين الصحوة والغفوة .ما أذكره هو أنها كانت أن تسمع قصة حياتي.
جميلة ج ًّدا ونحن صغار .عندما كنت أسأل أمي عن فكرت في عباءاتي الكثيرة المزركشة المعطرة ،لكنها
ذلك ،كيف أنها لا تبدو عجو ًزا مثل باقي الجدات، ستصمني بما لا أريد على أرض المحروسة .يجب
أن أرتدي وشا ًحا على الرأس .لد َّي أوشحة .لا أذكر
كانت تقول: أين وضعتها ضمن ملابس الشتاء لأنه لا شتاء في
“كانوا بيجوزوا البنات صغيرين يا حبيبتي”. الخليج ،لأنك عندما تحمل حقائبك وترتحل ،تضيع
لم أفهم هذه المقولة وقتها ،لأني أعرف أن العروس
يجب أن تكون كبيرة كي ترتدي فستان زفاف. منك المواسم.
وتخيلت كيف يكون الزواج بين جدتي وجدي الآن أضع الوشاح المزركش على رأسي بعض
الذي لم أ َر سوى صوره المغبرة المعلقة على حيطان الوقت ،ثم أتركه يسقط على كتفي وقتًا آخر.
البيت وصور ملونة له في ألبوم قديم ضخم .يضع الممرضات يحملقن في شعري بمجرد دخولهن غرفة
سيجارة في فمه ويده على كتف قريب في حفل عقد جدتي .مما يدفعني إلى تغطيته مرة أخرى بذلك
قران .جالس على كرسي شاطئ وعلى وجهه نظارة الوشاح الفلبيني الذي يحمل علامة صنع في فيتنام.
سوداء وبجانبه أبي وعمي يرتديان شورت ْي بحر
مضحكين .ثم راح فضولي حول حياة جدتي مع لا أدري أينا يخدع الآخر.
الزمن .ولكنني لم أفهم لماذا جدتي لم تكن تبدو مثل جدتي لا تتحرك إلا قلي ًل .أحيا ًنا تتكلم في نومها.
باقي الجدات .الآن أنظر إليها ،ما زالت لا تبدو مثل
أستيقظ في الليل وأرد عليها:
باقي الجدات .ربما أنا لا أرى جي ًدا. “تيتا ،عايزة حاجة؟ أنت صاحية؟”
“مصر دلوقت اتغيرت عن زمان .تعملي زي ما عمك لكنها لا تقول شيئًا .أغمض عين َّي مرة أخرى،
وأحاول أن أرحل إلى عالم الذكريات .أتخيلها
هيقولك .متمشيش من غير مشورته”. ذكريات جميلة .أدعي أنها ذكريات جميلة .لكنها
كانت وصية أبي لي التي كررها على مسامعي ربما لم تكن كذلك .كان هناك كثير من الصياح
بطرق مختلفة وكلمات مختلفة .وأخي ًرا قبل أن أتجه والخوف والدموع ،يذرفها الجميع ،حتى إخوتي
إلى صالة المسافرين قال ما كنت أعرف أنه يدور في الصبيان وهم صغار .كانوا يبكون كثي ًرا .لكنني
أذكر بيت جدتي جي ًدا .بيتها الصغير في ذلك
باله: الشارع الضيق .تصل إلى باب ضيق ثم ينفرج عن
“هتروحي تشوفي مامتك؟” باب آخر مغلق بقفل دائ ًما .كان هناك أربع طوابق.
بشرة جدتي الناصعة البياض لا يشوبها شيء. بيت جدتي كان يشغل الطابق الأول كله .كان أثاثه
لا تبدو عليها علامات الزمن ،ولا بقع التعرض غامق اللون وبقايا حيوات من عاشوا فيه مبعثرة
للشمس طوي ًل .شعيراتها البيضاء قليلة ،حتى لتكاد في أركانه ،وبعضها محفوظ في كراتين مغلقة على
آثارهم .وكنت دائ ًما أسأل بإصرار:
“أوضتك يا بابا فين؟»