Page 116 - merit 48
P. 116

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪114‬‬

                                                      ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

‫سناء مصطفى‬

‫صرخة صدى مهجور‬

  ‫التقت عيناي بأربعة أعين تحدق ف َّي بشكل مريب‪.‬‬        ‫بدأ ُت السير في الطريق الطويل الضيق نحو البيت‪.‬‬
     ‫كان هناك شابان يستندان على الحائط المجاور‬            ‫ها هي البئر على يميني‪ ،‬تلك العلامة التي تنبئ‬

 ‫للباب‪ ،‬بيد أحدهما راديو قديم يتصاعد منه صوت‬            ‫عن قرب الوصول‪َ .‬من هؤلاء الفتية الذين يقفون‬
   ‫وديع الصافي بأغنيته التي تبكيني وأهرب منها‪:‬‬        ‫أمام ورشة الدوكو تنشغل أفواههم بالثرثرة‪ ،‬بينما‬
                               ‫لياليك كانت نور‬         ‫عيونهم تراقب الناس بشكل مريب؟ إنهم يحدقون‬
                            ‫يسبح في ضيه بحور‬
                           ‫صرخة صدى مهجور‬                  ‫ف َّي‪ ،‬لكنني ‪-‬رغم توتري‪ -‬أتظاهر بالثقة واللا‬
                            ‫مرسوم في كل جدار‬                                                  ‫مبالاة‪.‬‬
                          ‫راحوا فين حبايب الدار‬
                            ‫فين فين قولي يا دار‪.‬‬        ‫ها هو البيت ببوابته العريضة ذات اللون الأحمر‬
                                                      ‫الداكن‪ ،‬والقفل الكبير الذي اخترته بنفسي‪ .‬أمسكت‬
‫تظاهرت بالقوة والثبات‪ ،‬وحدق ُت في عينيهما بنظرة‬
    ‫تح ٍّد‪ ،‬وأشرت بيدي أن اذهبا من هنا‪ ،‬لكنهما لم‬            ‫مندي ًل صغي ًرا لأزيل التراب العالق باليافطة‬
      ‫يتحركا‪ ،‬بل بنظرة تح ٍّد أكبر ابتسم ك ٌّل منهما‬        ‫البيضاء المثبتة على يمين الباب‪ .‬شيء غريب!‬
                       ‫ابتسامة ساخرة أربكتني‪.‬‬              ‫اليافطة كان مكتو ًبا عليها باللون الأسود‪ :‬زاد‬
      ‫وضعت المفتاح في القفل‪ ،‬وفتحت البوابة‪ ،‬لكن‬           ‫المسافر في رحلته القصيرة‪ .‬لكنها الآن صارت‪:‬‬
   ‫قبل أن أدخل هاربة من قلقي وتوتري وارتباكي‬          ‫زاد المسافر في رحلته الطويلة! من الذي غيَّر الكلمة‬

 ‫أتاني صوت جلبة من الخلف‪ .‬نظرت ورائي‪ ،‬وعلى‬                                            ‫وكتب عكسها؟!‬
    ‫امتداد بصري في المساحة الشاسعة من الأرض‬               ‫الزير الذي أضعه أمام البيت وأحرص أن يبقى‬
                                                          ‫دو ًما ممتلئًا بالماء‪ ،‬كان لدهشتي جا ًّفا كأن الماء‬
‫الفضاء أمام البيت‪ ،‬كان هناك جمع غفير من النساء‬           ‫لم يرطب فمه لشهور! والإناء الذي أضعه تحته‬
     ‫المتشحات بالسواد بيد كل واحدة منهن راديو‬         ‫ليشرب منه عابرو السبيل من القطط والكلاب كان‬
     ‫قديم تتصاعد منه أنغام متداخلة غير واضحة‪،‬‬           ‫جا ًّفا أي ًضا‪ .‬كنت هنا منذ أيام قليلة‪ ،‬وواثقة أنني‬

   ‫ويتحدثن في نفس الوقت إلى امرأة سبعينية تقف‬                      ‫ملأت الزير بنفسي‪ .‬ما الذي يحدث؟‬
 ‫في المنتصف‪ ،‬وتتحدث إليهن بلهجة حازمة‪ ،‬وتشير‬          ‫مددت يدي إلى حقيبتي‪ ،‬أبحث عن ميدالية المفاتيح‪،‬‬
‫بأصبعها محذرة من شيء ما‪ .‬أمامها منضدة كبيرة‬           ‫وحين أخرجتها أدهشني أن هناك مفتاحين غريبي‬

   ‫عليها عدد كبير من الراديوهات مختلفة الأشكال‬          ‫الشكل لا أعرفهما‪ ،‬ولا أعرف من الذي وضعهما‬
     ‫والألوان والأحجام‪ .‬لا أفسر ما يقلن‪ ،‬وتختلط‬               ‫بين مفاتيحي‪ .‬لم أتوقف أمام الأمر طوي ًل‪،‬‬
                                                               ‫سأهاتف ابنتي بعد قليل وأسألها عنهما‪.‬‬
 ‫أصواتهن بجلبة في رأسي‪ ،‬وخوف مجهول الهوية‬
                                                          ‫أمسكت مفتاح القفل‪ ،‬وقبل أن أضعه في الثقب‪،‬‬
   111   112   113   114   115   116   117   118   119   120   121