Page 16 - merit 48
P. 16

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪14‬‬

                                                   ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

  ‫شعره إذا قرع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعد‬          ‫بين القديم والمحدث في الشعر‪ ،‬يطرح تصوره‬
   ‫إتعاب الفكر وكد الخاطر والحمل على القريحة‪،‬‬         ‫عن الشعر فيرى أنه علم العرب الذي ينبغي أن‬
 ‫فإ ْن ظفر به‪ ،‬فذلك من بعد العناء والمشقة‪ ،‬وحين‬
 ‫حسره الإعياء‪ ،‬وأوهن قوته الكلال وتلك حال لا‬            ‫تتوافر في قائله شروط أهمها الطبع والرواية‬
    ‫تهش فيها النفس للاستماع ِب َح َسن أو الالتذاذ‬   ‫والذكاء وال ُّدربة‪ .‬وهو يري كذلك أ َّن أجود الشعر‬
                                                    ‫هو الشعر الذي لا يتكلفه قائله‪ ،‬بل يسير فيه على‬
           ‫بمستظرف‪ ،‬وهذه جريرة التكلف”(‪.)11‬‬        ‫طبعه دون تصنع أو تكلف‪ ،‬فتهش النفس بسماعه‬
‫ثم ينعي القاضي الجرجاني على أبي تمام خروجه‬           ‫وتألفه‪ ،‬ويسرع علوقه بالقلب‪ ،‬فالنفس تألف ما‬

      ‫عن طبعه وأسلوبه الرقيق الرشيق‪ ،‬فيتكلف‬           ‫جانسها‪ ،‬ويجب على الشاعر الحضري‪ ،‬في نظر‬
   ‫ويتصنع خار ًجا عن طبيعته‪ ،‬فيحدث الاختلاف‬            ‫الجرجاني أي ًضا‪ ،‬أ َّل يخلط في شعره‪ ،‬فلا يأتي‬
    ‫والتنافر والتفاوت في شعره‪ ،‬وما ذلك إلا لأنه‬       ‫باللفظة البدوية الوعرة‪ ،‬بينما هو مسترسل في‬
   ‫تكلَّف أن يجاري القدماء فنبا بالذوق عن قبول‬
   ‫ذلك المعني المتصنع‪“ :‬وربما افتتح الكلمة وهو‬                      ‫شعره بأسلوب سهل لين رقيق‪.‬‬
    ‫يجري مع طبعه فينظم أحسن عقد ويختال في‬          ‫وعلي هذا الأساس؛ أساس قرب الشعر من النفس‪،‬‬
    ‫مثل الروضة الأنيقة حتى تعارضه تلك العادة‬
                                                       ‫وتأثيره في القلوب‪ ،‬وتحريكه لها‪ ،‬وإلقائه على‬
     ‫السيئة(‪ ،)12‬وهي كما أشرنا الإغراب والتكلف‬          ‫الطبع دون تصنع أو تكلف‪ ،‬يفاضل القاضي‬
   ‫ومجاراة القدماء في غير موضع لهذه المجاراة‪،‬‬            ‫الجرجاني بين الشعراء‪ ،‬وهو يلوم أبا تمام‬
    ‫فيتسنم أوعر طريق‪ ،‬ويتعسف أخشن مركب‪،‬‬
                                                          ‫لخروجه على هذه المقاييس‪ ،‬إذ نجده يقول‪:‬‬
       ‫فيطمس تلك المحاسن ويمحو طلاوة ما قد‬             ‫“وربما كان ذلك سببًا لطمس المحاسن كالذي‬
                                      ‫قدم”(‪.)13‬‬    ‫نجده كثي ًرا في شعر أبي تمام‪ ،‬فإنه حاول من بين‬
                                                     ‫المحدثين الاقتداء بالأوائل في كثير من ألفاظه(‪،)10‬‬
 ‫ثم يمضي القاضي الجرجاني مدل ًل على ذلك بما‬        ‫فحصل منه على توعير اللفظ‪ ،‬فقبح في غير موضع‬
‫فعل أبو تمام في كثير من شعره فبينما هو يقول‪:‬‬
                                                                                   ‫من شعره فقال‪:‬‬
                     ‫لو حار مرتاد المنية لم يجد‬                        ‫فكأنما هي في السماع جنادل‬
                    ‫إلا الفراق على النفوس دليلا‬                        ‫وكأنما هي في القلوب كواكب‬
                  ‫قالوا الرحيل فما شككت بأنها‬        ‫فتعسف ما أمكن وتغلغل في التصعب كيف قدر‪،‬‬
                    ‫نفسي من الدنيا تريد رحيلا‬        ‫ثم لم يرض بذلك حتى أضاف إليه طلب البديع‪،‬‬
                                                   ‫فتحمله من كل وجه‪ ،‬وتوصل إليه بكل سبب‪ ،‬ولم‬

                                                                                      ‫يرض بهاتين‬
                                                                                      ‫الخلتين حتى‬
                                                                                     ‫اجتلب المعاني‬

                                                                                         ‫الغامضة‪،‬‬
                                                                                            ‫وقصد‬

                                                                                         ‫الأغراض‬
                                                                                           ‫الخفية‪،‬‬

                                                                                      ‫فاحتمل فيها‬
                                                                                      ‫كل غث ثقيل‬
                                                                                       ‫وأرصد لها‬
                                                                                       ‫الأفكار بكل‬
                                                                                     ‫سبيل‪ ،‬فصار‬
                                                                                    ‫هذا الجنس من‬
   11   12   13   14   15   16   17   18   19   20   21