Page 17 - merit 48
P. 17

‫‪15‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

     ‫هذا المنطلق أي ًضا‪ ،‬فيرى شعر البحتري عذ ًبا‬                       ‫وبينما هو يعدل عن النسيب فيقول‪:‬‬
‫لطبعه وبعده عن التصنع‪“ :‬ومتي أردت أن تعرف‬                                   ‫لو جاز سلطان القنوع وحكمه‬
‫ذلك عيا ًنا‪ ،‬وتستثبته مواجهة‪ ،‬فتعرف فرق ما بين‬                                ‫في الخلق ما كان القليل قليلا‬
                                                                             ‫من كان مرعى عزمه وهمومه‬
  ‫المصنوع والمطبوع‪ ،‬وفضل ما بين السمح المنقاد‬                               ‫روض الأماني لم يزل مهزولا‬
‫والعصي المستكره‪ ،‬فاعمد إلى شعر البحتري‪ ،‬ودع‬
‫ما يصدر به الاختيار ويعد في أول مراتب الجودة‪،‬‬               ‫يقول القاضي الجرجاني “فهو كما تراه يعرض‬
 ‫ويتبين فيه أثر الاحتفال‪ ،‬وعليك بما قاله عن عفو‬              ‫عليك هذا الديباج الخسرواني‪ ،‬والوشي المنمنم‬

                       ‫خاطره‪ ،‬وأول فكرته”(‪.)18‬‬                                                ‫حتى يقول‪:‬‬
      ‫ثم يعلق الجرجاني على الأمثلة التي جاء بها‬                                    ‫لله درك أي معبر قفرة‬
      ‫من شعر البحتري قائ ًل‪“ :‬ثم انظر هل تجد‬                                ‫لا يوحش ابن البيضة الإجفيلا‬
     ‫معني مبتذ ًل‪ ،‬ولفظا مشته ًرا مستعم ًل‪ ،‬وهل‬                                   ‫َأ َو ما تراها لا تراها هزة‬
  ‫تري صنعة وإبدا ًعا أو تدقي ًقا أو إغرا ًبا‪ ،‬ثم تأ َّمل‬                     ‫تشأى العيون تعجر ًفا وذميلا‬
  ‫كيف تجد نفسك عند إنشاده‪ ،‬و َت َف َّقد ما يتداخلك‬                ‫فن َّغص عليك تلك اللذة‪ ،‬وأحدث في نشاط‬
   ‫من الارتياح‪ ،‬ويستخفك من الطرب إذا سمعته‪،‬‬
  ‫وتذ َّكر صبوة إ ْن كانت لك تراها ممثلة لضميرك‬                                                ‫فترة”(‪.)14‬‬
                                                               ‫ويقول في موضع آخر‪“ :‬ومع التكلف المقت‪،‬‬
                     ‫ومصورة تلقاء ناظرك”(‪.)19‬‬              ‫وللنفس عن التصنع نفرة‪ ،‬وفي مفارقة الطبع قلة‬
        ‫ويقول في موضع آخر‪“ :‬وإنما أحلتك على‬
      ‫البحتري لأنه أقرب بنا عه ًدا‪ ،‬ونحن به أشد‬                               ‫الحلاوة وذهاب الرونق”(‪.)15‬‬
‫أن ًسا‪ ،‬وكلامه أليق بطباعنا‪ ،‬وأشبه بعاداتنا‪ ،‬وإنما‬         ‫وهكذا نري أ َّن القاضي الجرجاني قد فصل بين‬
  ‫تألف النفس ما جانسها‪ ،‬وتقبل الأقرب فالأقرب‬                ‫الجيد والردئ من الشعر على أساس من ارتياح‬
                                                            ‫القلب إلى الشعر‪ ،‬وقرب هذا الشعر من النفس‪..‬‬
                                      ‫إليها”(‪.)20‬‬           ‫هذا الشعر الذي لا يتكلفه قائله‪ ،‬ولا يتعمله‪ ،‬بل‬
 ‫وهنا نصل إلى مفهوم القاضي الجرجاني للشعر‪،‬‬                  ‫يسترسل فيه بطبعه الذي لم يعن به الجرجاني‬
 ‫وأنه ليس مجرد كلام موزون ومقفي‪ ،‬وأن قيمته‬                 ‫كل طبع‪ ،‬بل عني به الطبع المهذب الذي قد صقله‬
                                                             ‫الأدب وشحذته الرواية(‪ ،)16‬ذلك الطبع الذي قد‬
    ‫إنما تكمن في تأثيره في النفس‪ ،‬وعلوقه بالقلب‬              ‫يعني به الجرجاني‪ ،‬أي ًضا‪ ،‬الموهبة الشعرية(‪.)17‬‬
 ‫حتى يألفه الذوق‪ ،‬وتطرب بسماعه القلوب‪ ،‬وهنا‬                 ‫وهكذا يح ِّكم القاضي الجرجاني الذوق في قبول‬
                                                             ‫الشعر أو عدم‬
   ‫نلاحظ أي ًضا احتفال القاضي الجرجاني بالأثر‬             ‫قبوله‪ ،‬في الفصل‬
      ‫النفسي للشعر‪ ،‬وبضرورة أن يكون مألو ًفا‬
                                                                 ‫بين جيده‬
    ‫للذوق‪ ،‬كما نلاحظ كذلك حرصه على أن يكون‬                ‫ورديئه‪ ،‬وإذا كنا‬
‫الشعر قريبًا من ذوق العصر الذي يعبر عنه‪ ،‬لأن‬
 ‫ألفته للذوق وقربه من النفس لا تتأتي بغير ذلك‪.‬‬              ‫قد رأيناه يلوم‬
                                                           ‫أبا تمام لتصنعه‬
    ‫ونجد هذه النظرة واضحة عنده أي ًضا في قوله‬             ‫وتكلفه في شعره‪،‬‬
       ‫“فأما الهجو فأبلغه ما جرى مجرى الهزل‬
                                                             ‫ُم َح ِّك ًما الذوق‬
‫والتهافت‪ ،‬وما اعترض بين التصريح والتعريض‪،‬‬                 ‫كما أشرنا‪ ،‬فإننا‬
   ‫وما قربت معانيه وسهل حفظه‪ ،‬وأسرع علوقه‬
                                                             ‫نجده يفاضل‬
 ‫بالقلب‪ ،‬ولصوقه بالنفس‪ ،‬فأما القذف والإفحاش‬                      ‫بينه وبين‬
‫فسباب محض‪ ،‬وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن‬
                                                          ‫البحتري فيفضل‬
                           ‫وتصحيح النظم”(‪.)21‬‬              ‫الأخير من نفس‬
       ‫ويكشف فهم القاضي الجرجاني للسرقات‬
   ‫الشعرية عن نضوج في النقد فهو لا يعد تداول‬
   12   13   14   15   16   17   18   19   20   21   22