Page 20 - merit 48
P. 20

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪18‬‬

                                                       ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

    ‫فيذكر ذلك أو غيره مما يعجبه دون أن يفسر‬               ‫العربي بالعلاقة الشكلية الخالصة بين عناصر‬
     ‫سبب هذا الإعجاب‪ ،‬بل يعلق تعلي ًقا عا ًّما كأن‬     ‫الصورة الشعرية‪ ،‬بحيث يرتد جمالها إلى الاتساق‬
   ‫يقول‪ :‬مث ًل‪ ،‬فإذا جاءتك الاستعارة كقول زهير‬
 ‫ثم يذكر البيت أو الأبيات له أو لغيره‪ ،‬يقول “فقد‬           ‫الشكلي بين هذه العناصر من ناحية الوضوح‬
‫جاءك الحسن والإحسان‪ ،‬وقد أصبت ما أردت من‬                ‫أو التمايز أو الصدق بمعني توافق عناصرالعمل‬

               ‫إحكام الصنعة وعذوبة اللفظ”(‪.)38‬‬             ‫الشعري مع معطيات الواقع الذي يصوره‪ ،‬أو‬
       ‫فلا يبدو في هذا التطبيق‪ ،‬أو غيره‪ ،‬إلا ناق ًدا‬     ‫الصدق الأخلاقي بمعني نقل الحقيقة الأخلاقية‬
      ‫انطباعيًّا‪ ،‬يطلق أحكا ًما عامة على فن الشعر‪،‬‬     ‫على حالها(‪ .)37‬وهذا يتبين أكثر ما يتبين في المدح‪،‬‬
     ‫بل على أداة نوعية من أهم أدواته الفنية وهي‬         ‫إذ يرتد الإعجاب بمدح زهير مث ًل‪ ،‬إلى أنه كان لا‬
   ‫الاستعارة‪ ،‬لا يغض من ذلك جودة الاستعارات‬            ‫يمدح الرجل إلا بما فيه من صفات‪ ،‬وهكذا يتضح‬
   ‫التي اختارها لأن فهمه لدور الاستعارة في هذه‬         ‫مما سبق أن جودة الشعر عند القاضي الجرجاني‬
‫الأمثلة التي اختارها لم يصل إلى التصور الناضج‬           ‫مرتبطة ببعد الشاعر عن الصنعة أو البديع الذي‬
       ‫الذي يجعل للاستعارة دو ًرا مؤث ًرا في بناء‬        ‫قرنه بالاستعارة أي ًضا‪ ،‬وكأنها حلية لفظية مثل‬
‫القصيدة‪ ،‬بحيث تغدو أداة لا غني للشاعر عنها في‬
‫التعبير عن تجربته‪ ،‬وليست حلية لفظية أو محسنًا‬                                                  ‫البديع‪.‬‬
  ‫بديعيًّا كما يبدو من فهم القاضي الجرجاني لها‪.‬‬         ‫وتلفتنا في نقد القاضي الجرجاني للشعر ظاهرة‬
‫وكذلك يفعل القاضي الجرجاني بعد أن يورد ُم ُث ًل‬           ‫واضحة وهي عدم تفسيره لجمال الشعر‪ ،‬فهو‬
 ‫للاستعارة السيئة‪ ،‬من وجهة نظره‪ ،‬فلا يعلل ولا‬          ‫عندما يمثِّل للتشبيه الجيد‪ ،‬أو للاستعارة الجيدة‪،‬‬
 ‫يفسر ولا يحلل بل يعلِّق على ذلك قائ ًل‪“ :‬فاسدد‬         ‫لا نجده يعتمد إلا على ذوقه الخاص‪ ،‬بحيث يورد‬
 ‫مسامعك‪ ،‬واستغش ثيابك‪ ،‬وإياك والإصغاء إليه‪،‬‬              ‫أبيا ًتا أو قصائد تعجبه بعض صورها ولا يق ِّدم‬
    ‫واحذر الالتفات نحوه‪ ،‬فإنه مما يصدئ القلب‬           ‫أي تحليل أو تفسير لسبب إعجابه بها‪ ،‬فهو يمثل‬
   ‫ويعميه‪ ،‬ويطمس البصيرة‪ ،‬ويكد القريحة”(‪.)39‬‬
  ‫ولعل العمومية والانطباعية في الحكم على الشعر‬                     ‫للاستعارة الجيدة‪ ،‬مث ًل‪ ،‬بقول زهير‪:‬‬
      ‫واضحة في هذه النظرة أي ًضا‪ ،‬ناهيك عن أنه‬                     ‫صحا القلب عن سلمي وأقصر باطله‬
       ‫يحكم على الشعر من طريق أبيات بأعيانها‪،‬‬
  ‫منفصلة عن سياق القصيدة‪ ،‬التي يجب أن ينظر‬                               ‫و ُع ِّري أفرا ُس الصبِّا ورواحله‬
       ‫إليها باعتبارها وحدة متكاملة‪ ،‬لا باعتبارها‬                                        ‫أو بقول لبيد‪:‬‬
   ‫أبيا ًتا منفصلة‪ ،‬أو ألفا ًظا منفردة كما بدا في نقد‬
    ‫الجرجاني للشعر‪ ،‬ونظرته إليه على أساس من‬                                 ‫و َغدا ٍة ري ٍح قد ُو ِزع ُت وق َّر ٍة‬
   ‫الفصل بين اللفظ والمعني‪ ،‬أدى إليه تلك النظرة‬                          ‫إذ أصبح ْت بيد الشمال زما ُمها‬
 ‫المحدودة لفن الشعر‪ ،‬وذلك التطبيق الجزئي الذي‬
       ‫لا يسعي إلى وضع نظرية عامة في الشعر‪.‬‬                                       ‫أو بقول ابن الطثرية‪:‬‬
    ‫وهناك ظاهرة واضحة تلفتنا‪ ،‬أي ًضا‪ ،‬في تناول‬                            ‫أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا‬
 ‫القاضي الجرجاني للعلاقة بين الشعر والأخلاق‪،‬‬                              ‫وسالت بأعناق المطي الأباطح‬
  ‫فقد فصل بينهما‪ ،‬فالشعر عنده صنعة لا علاقة‬
 ‫لها بعقيدة أو دين‪ ،‬لأنه لو كان للشعر‪ ،‬من ناحية‬                              ‫في معرض قوله قبل ذلك‪:‬‬
  ‫جودته‪ ،‬صلة بالدين لمح َي ديوان أبي نواس من‬                              ‫ولمَّا قضينا من منى كل حاجة‬
     ‫الشعر مح ًوا لانتشار الغزل الحسي الصريح‬                            ‫و َم َّسح بالأركان َم ْن هو ماسح‬
     ‫فيه‪ ،‬ولانتشار روح الإلحاد في جنباته‪ ،‬ولكنا‬                        ‫و ُش َّدت على ُه ْدب ال َمهاري رحا َلنا‬
                                                                        ‫ولم ينظر الغادي الذي هو رائح‬

                                                                                   ‫أو بقول أبي نواس‪:‬‬
                                                                         ‫جريت مع الصبا طل َق الجموح‬

                                                                               ‫وهان على مأثو ُر القبيح‬
                                                                                    ‫أو بقول ابن المعتز‪:‬‬

                                                                         ‫أقول ودمع العين تسرقه يدي‬
                                                                            ‫حذاِر لدمع الشامت المتو ِّدد‬
   15   16   17   18   19   20   21   22   23   24   25