Page 25 - merit 48
P. 25
23 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
ولقد اشترط القاضي الجرجاني صحة الطبع بالنظر والمحاجة ،ولا ُي َح َّل في الصدور بالجدال
للناقد الجيد ،وأضاف إلى ذلك ضرورة استمرار والمقايسة ،وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة،
المران ،أو الدراية ،أو ممارسة النقد ،أو ما أسماه ويقرب منها الرونق والحلاوة ،وقد يكون الشيء
إدمان الرياضة يؤكد ذلك بقوله“ :وإنما مداره على
استشهاد القرائح الصافية ،والطبائع السليمة التي متقنًا محك ًما ،ولا يكون حل ًوا مقبو ًل ،ويكون
جي ًدا وثي ًقا ،وإ ْن لم يكن لطي ًفا رشي ًقا ،وقد يجد
طالت ممارستها للشعر ،فحذقت نقده ،وأثبتت الصورة الحسنة والخلقة التامة مقلية ممقوتة،
عياره ،وقويت على تمييزه ،وعرفت خلاصه”(.)60
وأخرى دونها مستحلاة موموقة”(.)56
ويتم القاضي الجرجاني مفهومه للنقد والناقد، فالأدب الذي يستوفي شروط الجمال الشكلي
وبالتالي للشعر بقوله“ :وأقل الناس ح ًّظا في الخالص ،قد لا يكون محبو ًبا من النفس ،في الوقت
الذي قد يصل إلى القلب أدب يقل فيه الاهتمام
هذه الصناعة َمن اقتصر في اختياره ونفيه ،وفي بهذا الجمال الشكلي ،فيكون مقبو ًل لطي ًفا رشي ًقا
استجادته واستسقاطه على سلامة الوزن ،وإقامة مع أن صورته أقل حسنًا من الناحية الشكلية.
الإعراب ،وأداء اللغة ،ثم كان همه وبغيته أن يجد وإلى هنا ،فلا يزال الإحساس بالجمال الأدبي
لف ًظا مرو ًقا ،وكلا ًما مزو ًقا ،قد ُحشي تجني ًسا مبه ًما وعا ًّما ،ولا يزال الناقد مفتق ًرا إلى ما
وترصي ًعا ،و ُشحن مطابقة وبدي ًعا ،أو معني يصقل إحساسه بهذه الجمال .ومع أ َّن القاضي
الجرجاني قد حاول أن يحدد تصو ًرا لشخصية
غام ًضا ،قد تعمق فيه مستخرجه ،وتغلغل إليه الناقد ،وحقق في هذا الصدد إنجا ًزا واض ًحا ،ومع
مستنبطه ،ثم لا يعبأ باختلاف الترتيب واضطراب أنه قد حاول ،كذلك أن يحدد تصو ًرا لأصول النقد
الشعري ،فإنه على الرغم من ذلك ،لم ينقل هذه
النظم ،وسوء التأليف ،وهلهلة النسج ،ولا يقابل التصورات الواضحة إلى حيز التطبيق عندما تناول
الألفاظ ومعانيها ولا يسبر ما بينهما من نسب،
ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب ،ولا يرى شعر المتنبي بالنقد.
لقد رسم القاضي الجرجاني الملامح الأساسية
اللفظ إلا ما أ َّدي إليه المعنى ،ولا الكلام إلا ما
ص َّور له الغرض ،ولا ال ُحسن إ َّل ما أفاده البديع، التي تش ِّكل شخصية الناقد ،كما أشار إلى ما
يمكن أن يسمي بالمؤ ِّهلات التي يجب أن تتوافر في
ولا الرونق إلا ما كساه التصنيع”(.)61 شخص ما لكي يكون ناق ًدا ،فأ َّكد قيمة التخصص
فالنقد ،والشعر ،بالتالي ،ليس عل ًما جا ًّفا ،أو في النقد ،فلكل صناعة ،على حد تعبيره ،أهل ُي ْر َجع
صناعة بحتة ،والناقد لا بد أن تتوافر له إلى جانب
الثقافة اللغوية ،والأدبية الخاصة ثقافة أوسع، إليهم في خصائصها ،و ُي ْست َظهر بمعرفتهم عند
وإدراك لطبيعة الأدب أعمق وأنضج بحيث لا اشتباه أحوالها(.)57
يقتصر همه على تصحيح لغة الشعر ،أو تصحيح
أوزانه أو استخراج غامضه وبديعه ،وإنما يجب ولا بد أن تتوافر في الناقد شروط ،فنقد الشعر
عليه أن يكون ذا بصر بالفن الأدبي من حيث أمر ُت ْس َتخبر به النفوس المهذبة ،وتستشهد عليه
اكتماله وشموله ،الذي يتمثل في سلامة نظامه، الأذهان المثقفة على حد تعبيره( .)58وناقد الشعر
وحسن تأليفه وترتيبه ونسجه ،وملاءمة لفظه ينبغي أن يكون مسل ًحا بالرواية حينًا وبالدراية
لمعناه. أحيا ًنا ويحتاج في أكثر الأحيان ،كما يقول
وهذه رؤية للشعر ونقده تمثل إنجا ًزا واض ًحا في القاضي الجرجاني إلى “دقة الفطنة ،وصفاء
الفكر النقدي للقاضي الجرجاني ،ولكنه مع ذلك القريحة ،ولطف الفكر ،و ُبعد الغوص ،و ِملاك ذلك
كله وتمامه الجامع له والزمام عليه صحة الطبع،
لم يترجم هذه الرؤي الناضجة ،أو التصورات وإدمان الرياضة ،فإنهما أمران ما اجتمعا في
الخلاقة إلى واقع ملموس في كتاب الوساطة عندما شخص ،فق َّصرا في إيصال صاحبهما عن غايته،
تصدي لنقد شعر المتنبي ،فحدثت فجوة واضحة
بين النظرية والتطبيق إذا جاز لنا أن نعد مفهومه ورضيا له بدون نهايته”(.)59
للشعر قد رقي إلى درجة النظرية