Page 24 - merit 48
P. 24

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪22‬‬

                                                            ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

  ‫للقلب‪ ،‬ثم لا تعلم وإ ْن قاسيت واعتبرت ونظرت‬               ‫تكون للشاعر حريته الفنية الخاصة في التعبير عن‬
‫وفكرت لهذه المزية سببًا‪ ،‬ولما ُخ َّصت به ُمقتضيًا‪..‬‬          ‫تجربته‪ ،‬ومن هنا‪ ،‬أي ًضا نوافقه في طرحه لقضية‬

   ‫وغاية ما عندك أن تقول موقعه في القلب ألطف‬                     ‫الإبداع الفني‪ ،‬في علاقته مع الدين والأخلاق‪،‬‬
                          ‫وهو بالطبع أليق”(‪.)52‬‬                 ‫ولكنَّا‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬لا ينبغي أن نطلق هذا الإبداع‬
                                                                ‫بلا قيود‪ ،‬إذ ليس من المعقول أ َّل يراعي الفنان‬
 ‫ثم ينتقل بعد ذلك إلى تطبيق هذا الرأي على الأدب‬               ‫ضرورة التواصل مع المتلقي‪ ،‬ومن بديهيات هذا‬
 ‫فيقول‪“ :‬كذلك الكلام منثوره ومنظومه‪ ،‬ومجمله‬                      ‫التواصل ألا يصدم الفنان المتلقي في عواطفه‬
 ‫ومفصله تجد منه المحكم الوثيق‪ ،‬والجزل القوي‪،‬‬                     ‫ومشاعره‪ ،‬خصو ًصا إذا كانت هذه العواطف‬
                                                               ‫والمشاعر دينية أو أخلاقية‪ .‬وإذا كنا ننادي بأن‬
    ‫والمصنع المحكم‪ ،‬والمنمق الموشح‪ ،‬قد ُهذب ك َّل‬           ‫ُنقيِّم العمل الفني بأسس فنية خاصة به‪ ،‬فإ َّن ذلك‬
   ‫التهذيب‪ ،‬وثقف غاية التثقيف‪ ،‬وجهد فيه الفكر‬                  ‫لا يعني إهمال القيم الأخرى التي تتصل بالفن‬
    ‫وأُتعب لأجله الخاطر‪ ،‬حتى احتمى ببراءته عن‬               ‫اتصا ًل وثي ًقا‪ ،‬بحيث لا يصدم هذا الفن هذه القيم‬
    ‫المعائب‪ ،‬واحتجر بصحته عن المطاعن‪ ،‬ثم تجد‬                   ‫الدينية أو الأخلاقية أو الإنسانية أو الثقافية أو‬
                                                              ‫الحضارية‪ ،‬التي تمثل فلسفة المجتمع الذي يعبر‬
      ‫لفؤادك عنه نبوة‪ ،‬وترى بينه وبين ضميرك‬
       ‫فجوة‪ ،‬فإن خلص إليهما فبأن يسهل بعض‬                                                     ‫عنه هذا الفن‪.‬‬
   ‫الوسائل أذنه‪ ،‬ويمهد عندهما حاله‪ ،‬فأما بنفسه‬               ‫وإذا كان القاضي الجرجاني‪ ،‬كما أشرنا‪ ،‬قد عبر‬
                                                             ‫بصدق عن الصيغة النقدية التي عاصرها‪ ،‬ومهما‬
              ‫وجوهره وبمكانه وموقعه فلا)(‪.)53‬‬
   ‫وهكذا يتضح أن القاضي الجرجاني لم يستطع‬                        ‫كان اختلافنا حول هذا الفكر النقدي السائد‪،‬‬
    ‫تحديد علة جمال الشعر‪ ،‬واعيًا بذلك(‪ ،)54‬وإنما‬               ‫فإ َّنه يتضح أ َّن القاضي الجرجاني كان متواف ًقا‬
‫أشار إلى ذلك إشارة عامة‪ ،‬فالشعر الجميل‪ ،‬عنده‪،‬‬                   ‫مع ثقافة عصره‪ ،‬متلائ ًما مع معطياتها‪ ،‬ممث ًل‬
   ‫هو ما لطف موقعه في القلب وكان أليق بالطبع‪،‬‬                  ‫لشخصيتها مما يدعونا أن نفكر في هذا السبيل‬
  ‫ووصول الشعر إلى القلب والضمير لا يتأتي‪ ،‬في‬                ‫على الأقل‪ ،‬فنسعي إلى التجديد بناء على نقد التراث‬
‫نظره‪ ،‬بالتفنن في صنعته‪ ،‬فقد يكون الشعر محك ًما‬                 ‫العربي بمعطياته الثقافية والحضارية‪ ،‬ونطوع‬
  ‫وثي ًقا‪ ،‬جز ًل قو ًّيا‪ ،‬مصن ًعا محك ًما‪ ،‬منم ًقا موش ًحا‬
 ‫إلى آخر ذلك مما ورد بتعبير القاضي الجرجاني‪،‬‬                     ‫ثقافاتنا المختلفة في خدمة قضايانا‪ ،‬والكشف‬
  ‫ولكنه مع ذلك لا يصل إلى القلب أو الضمير‪ ،‬بل‬                      ‫عن إيجابيات تراثنا وتأكيد هويتنا الثقافية‬
‫قد يصل إليهما ما هو أقل من ذلك من الشعر دون‬
   ‫أن نجد في أنفسنا‪ ،‬هكذا يذهب‪ ،‬تفسي ًرا مناسبًا‬               ‫والحضارية‪ ،‬في إطار من التفاعل الإيجابي بين‬
                                                                          ‫هويتنا الخاصة والثقافات الأخري‪.‬‬
     ‫لذلك‪ .‬ولعل ذلك يردنا مرة أخرى‪ ،‬إلى موقف‬
‫القاضي الجرجاني من الصنعة في الفن الأدبي‪ ،‬إذ‬                ‫لقد حاول القاضي الجرجاني‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬أن يحدد‬
‫يبين‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬أنه لا يحفل بالجمال الشكلي‬                ‫علة جمال الشعر‪ ،‬ولكنه لم يستطع تحديد هذه‬
                                                                ‫العلة‪ ،‬بل ردها إلى إحساس الناقد العام بقرب‬
  ‫للأدب‪ ،‬إ ْن جاز هذا التعبير‪ ،‬بمعني توفر الأديب‬               ‫الشعر من القلب‪ ،‬على نحو ما رأينا‪ ،‬وعلى نحو‬
   ‫على تزيين كلامه‪ ،‬وتنميق أسلوبه‪ ،‬أو غير ذلك‬                   ‫ما نجد في قوله‪“ :‬وإنما الكلام أصوات َم َحلُّها‬
‫مما لا يميل إليه القاضي الجرجاني‪ ،‬ويفضل عليه‬
                                                             ‫من الأسماع محل النواظر من الأبصار‪ ،‬وأنت قد‬
                                ‫الطبع في الأدب‪.‬‬              ‫ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن‪ ،‬وتستوفي‬
      ‫ولعل هذا الموقف للقاضي الجرجاني يفسر‬
    ‫لنا ما أشرنا إليه من عدم تعليله للأشعار التي‬               ‫أوصاف الكمال‪ ،‬وتذهب في الأنفس كل مذهب‪،‬‬
    ‫استحسنها‪ ،‬على كثرتها‪ ،‬في كتاب الوساطة‪ ،‬أو‬               ‫وتقف من التمام بكل طريق‪ ،‬ثم تجد أخرى دونها‬
 ‫حتى التي لم يستحسنها‪ ،‬واعتماده على الذوق في‬
    ‫الوقوف على القيم الجمالية للتعبير الأدبى(‪.)55‬‬               ‫في انتظام المحاسن‪ ،‬والتئام الخلقة‪ ،‬وتناصف‬
   ‫يؤكد ذلك قوله‪“ :‬والشعر لا ُي َحبَّب إلى النفوس‬             ‫الأجزاء‪ ،‬وتقابل الأقسام‪ ،‬وهي أحظى بالحلاوة‪،‬‬
                                                            ‫وأدنى إلى القبول‪ ،‬وأعلق بالنفس‪ ،‬وأسرع ممازجة‬
   19   20   21   22   23   24   25   26   27   28   29