Page 23 - merit 48
P. 23
21 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
الواسعة التي بدت في كتاب الوساطة ،موقف يذ ِّكرنا بما قاله الصولي “وما ظننت أ َّن كف ًرا
القاضي الجرجاني من مشكلة الصراع بين القديم ين ُقص من شعر ،ولا أن إيمانا يزيد فيه”(.)49
والمحدث من الأدب ،على نحو ما رأينا من عدم ومن هنا نلاحظ أن القاضي الجرجاني قد تصور
اعتداده بالقدم ،وحده كمعيار لجودة الأديب، أن الفصل بين الشعر والأخلاق قد يكون ح ًّل
أو بالحداثة ،وحدها كمعيار لعكس ذلك ،وكذلك
موقفه من قضية السرقات الشعرية حيث رد أو العقيدة أو الأخلاق مقيا ًسا لمشكلة تدخل الدين
وجود هذه الظاهرة إلى ما يمكن أن يسمي توارد هذه المشكلة قد فرضت نفسها أدبيًّا ،خصو ًصا َأ َّن
الخواطر بين الشعراء ،أو ما أطلق عليه (اتفاق
الهواجس)( .)51أ َّما أهم سلبياتها فتلك النظرة كقضية أدبية خطيرة إذ بلغ الأمر عند ابن قتيبة،
الجزئية للشعر ،باعتباره لف ًظا منفص ًل عن المعني،
مما أوقع الناقد في كثير من المزالق أهمها افتقاد أن يعد شعر الحكمة أعلى مراتب الشعر ،وأن يعد
النظرة الكلية إلى العمل الفني ،وعدم الوصول، شعر الغزل المكشوف ،مث ًل ،أرذل الشعرُ ،م َح ِّكما
بالتالي ،إلى نظرية كاملة ُت َن ِّسق مفاهيمه .وكان من المعيار الأخلاقي وحده في العمل الشعري.
جراء ذلك أن القاضي الجرجاني لم يحسم كثي ًرا
من مشكلات فن الشعر خصو ًصا إذا اعتبرنا أ َّن وبعد ،فقد عرضت لتناول القاضي الجرجاني
الهدف الذي حدا به إلى تأليف كتاب الوساطة
كان جزئيًّا محدو ًدا ،وهو وضع شعر المتنبي في للشعر في كتاب الوساطة ،وتصوره له ،وطريقته
الميزان ،فالهدف ،إذن ،جزئي محدود ،والنظرة
إلى وضع مفاهيم كلية للفن الشعري باعتباره فنًا في نقده ،وأسلوبه في فهمه ،ويحسن بنا في خاتمة
خا ًصا ومتمي ًزا غير موضوعة في الاعتبار ،وإ َّل
فكيف يمكننا أن نعتمد معه ،مث ًل ،على مقياس هذا البحث أن نعرض تقيي ًما لتصور هذا الناقد
الطبع والصنعة في تقييم التجربة الشعرية؟ وما ومفهومه للشعر وأن نعرض لأهم نتائج هذا
هي ،في هذه الحالة ،حدود الطبع وحدود الصنعة؟
وكيف نميِّز بين هذه الحدود؟ إن الأمر ،هنا ،لا البحث.
يعدو أن يكون تقيي ًما انطباعيًّا للتجربة الشعرية،
تختلف فيه أذواق النقاد ،ولا تضبطه ضوابط. لقد اتضح أن كتاب الوساطة ،كما أشرنا ُم َو َّجه
إ َّن للتجربة الشعرية خصوصيتها وتميزها ،وإ َّن أسا ًسا إلى نقد شعر المتنبي ،وقد حاولنا أن نسلط
تقييمها أو نقدها يجب أن يكون من معطياتها ،من
داخلها ،وليس من خارجها ،فأية معايير خارج الضوء على مفهوم القاضي الجرجاني للشعر،
إطار الشعر تصبح غير ذات معني في نقده ،لأنه
كما قلنا فن خاص ،له معاييره الخاصة به ،والتي ولقد اتضح أن القاضي الجرجاني ،قد انطلق في
يجب ألا تختلط بغيرها من المعايير الخارجة عنه،
ولا يعني ذلك أي ًضا أن نضع عل ًما جا ًّفا للشعر فهمه للشعر من معطيات الفكر النقدي على عهده،
كما كان الحال مع قدامة بن جعفر ،مث ًل ،ولكن
معني ذلك أنه يجب مراعاة خصوصية الشعر فنًّا أو التي اكتسبها بثقافته ،وحاول التعبير عنها
متمي ًزا ،وعدم إخضاع هذه الخصوصية لما سواها
بذوقه ،فمحاولته في نقد الشعر لا تعد فريدة،
من عوامل خارجة عنها.
ومن الواجب هنا أن نشير إلى اتفاقنا مع النقاد بل تعكس ،كما أشرنا ،كثي ًرا من معطيات الفكر
العرب ،ومنهم القاضي الجرجاني ،في وجوب أن النقدي في القرن الرابع الهجري ،أو ما قبله في
القرن الثالث على وجه الخصوص .وليس في هذا
مثلبة للقاضي الجرجاني ،على أية حال ،إذ لو لم
يكن كتابه (الوساطة) إ َّل محصلة لفكر عصره
النقدي لكفاه ،وقد كشف هذا الكتاب ،بحق ،عن
تمثل صاحبه لقضايا الشعر ومشكلاته في عصره،
وتعمقه فيها ،كما كشف عن ثقافة أدبية واسعة،
على الرغم مما بدا فيه من انطباعية في الأحكام
النقدية ،فالقاضي الجرجاني في هذا الكتاب
يستخدم منهج المقايسة( )50بين المتنبي وخصومه،
ويحاول أن يدلي بدلوه في قضية من أهم قضايا
عصره ،من الناحية الأدبية والنقدية ،وهي قضية
شعر المتنبي بين المؤيدين والخصوم ،وطبيعي أن
تكون لهذه المحاولة إيجابياتها وسلبياتها.
فمن أهم إيجابياتها ،القائمة على الثقافة الأدبية