Page 18 - merit 48
P. 18

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪16‬‬

                                                     ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

    ‫ولمن كثرت سوائر أمثاله‪ ،‬وشوارد أبياته‪ ،‬ولم‬           ‫الشعراء للمعاني المشتركة سرقة‪ ،‬مثل تشبيه‬
 ‫تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة‪ ،‬ولا تحفل بالإبداع‬           ‫الجواد بالغيث والبحر‪ ،‬وتشبيه الطلل المحيل‬
                                                        ‫بالخط الدارس‪ ،‬وما شابه ذلك‪ ،‬وهو يعتذر عن‬
    ‫والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر ونظام‬          ‫الشعراء المحدثين‪ ،‬ومنهم المتنبي‪ ،‬إِ ْن أخذوا بعض‬
                                  ‫القريض”(‪.)25‬‬       ‫معاني المتقدمين لأن هؤلاء المتقدمين قد استغرقوا‬
                                                       ‫المعاني‪ ،‬وهو لا يرى في بعض المعاني المتشابهة‬
  ‫ولا شك أ َّن فهم القاضي الجرجاني للشعر بهذه‬            ‫عند الشعراء سرقة من لاحق لسابق‪ ،‬فقد يرد‬
     ‫الكيفية‪ ،‬وتركيزه على ضرورة صحة المعني‪،‬‬              ‫المعنى الواحد أو ما يشبهه عند الشاعر القديم‬
                                                       ‫والمحدث دون قصد السرقة من الشاعر المحدث‪،‬‬
‫وإصابة الوصف‪ ،‬وقرب التشبيه‪ ،‬ثم كثرة الأمثال‬             ‫نتيجة توارد خاطر‪ ،‬أو اتفاق هاجس وقد يقال‪،‬‬
     ‫السائرة‪ ،‬نقول لا شك أن هذا الفهم يدل على‬        ‫على حد تعبيره‪ ،‬سرق شاعر بيت فلان‪ ،‬ولعل ذلك‬
     ‫أ َّن القاضي الجرجاني قد انطلق من المقولات‬
                                                                            ‫البيت لم يقرع سمعه قط‪.‬‬
  ‫النقدية التي عاصرها‪ ،‬بحيث يرتد جمال الشعر‪،‬‬              ‫ويري القاضي الجرجاني أن معرفة السرقة‬
     ‫بهذا المفهوم‪ ،‬أو ترتد قيمته الفنية إلى صدقه‬         ‫وتمييز أنواعها من عمل جهابذة الكلام ونقاد‬
     ‫واتساقه مع معطيات التجربة التي يصورها‪،‬‬             ‫الشعر الذين يستطيعون أن يميِّزوا بين السرق‬
     ‫أو بمعني أكثر وضو ًحا أن تكون العلاقة بين‬       ‫والغصب والإغارة والاختلاس والإلمام والملاحظة‪،‬‬
                                                            ‫والمشترك الذي لا يجوز ادعاء السرق فيه‪،‬‬
    ‫عناصر الصورة الشعرية واضحة‪ ،‬وأن تكون‬                 ‫والمبتذل الذي ليس أحد أولى به وبين المختص‬
  ‫هذه العناصر مو ِّضحة بالتالي‪ ،‬لمعطيات التجربة‬      ‫الذي حازه المبتدئ فملكه وأحياه السابق فاقتطعه‬
   ‫التي تصورها‪ ،‬فالتشبيه الجيد مث ًل‪ ،‬من وجهة‬              ‫فصار المعتدي مختل ًسا سار ًقا والمشارك به‬
  ‫نظر الناقد العربي‪ ،‬هو ما اشترك طرفاه في أكثر‬
   ‫الصفات والمعاني‪ ،‬والتشبيه الردئ‪ ،‬بالتالي‪ ،‬هو‬                                     ‫محتذ ًيا تاب ًعا(‪.)22‬‬
  ‫ما ق َّل وجه الشبه بين طرفيه(‪ .)26‬ويرتبط جمال‬          ‫كذلك يري أن فطنة الناقد تتمثل في قدرته على‬
    ‫الصورة الشعرية‪ ،‬بهذا المفهوم السابق‪ ،‬بقدرة‬        ‫وضع يده على المعني الخفي الذي سرقه الشاعر‬
  ‫الشاعر على أن يجمع في التشبيه‪ ،‬الذي هو أبرز‬
‫أدواتها‪ ،‬مث ًل‪ ،‬أكبر قدر من الصفات المشتركة بين‬                               ‫دون المعني الظاهر(‪.)23‬‬
 ‫المشبَّه والمشبَّه به مما يجعل قيمة الصورة الفنية‬      ‫وعندما رأي الجرجاني‪ ،‬بتحرج القاضي‪ ،‬أنه لا‬
  ‫مرتبطة بقدرتها على أن تكون وسيلة إيضاح أو‬             ‫يفضل البت في الحكم على شاعر بالسرقة لأنه‬
                                                       ‫يجب مراعاة ما أسماه بتوارد الخواطر أو اتفاق‬
                                      ‫إقناع(‪.)27‬‬       ‫الهواجس في الحذر من إطلاق حكم السرقة على‬
‫وهكذا يري قدامة أ َّن أحسن التشبيه هو أن يقارب‬         ‫شاعر‪ ،‬وأن هناك معاني مشتركة لا يجوز عدها‬
 ‫الشاعر ما بين المختلفين حتى ُيدني بهما إلى حال‬        ‫خاصة بشاعر دون شاعر‪ ،‬فإ َّنه بدا كما لو كان‬
                                                     ‫سيغلق الباب في أمر هذه القضية‪ ،‬ولكنه جر ًيا على‬
     ‫من الاتحاد(‪ ،)28‬وهكذا ترتد براعة الشاعر إلى‬     ‫عادة نقاد عصره أغرق في تفصيلاتها واستعرض‬
 ‫قدرته على استخدام الصورة الشعرية وسيلة من‬
  ‫وسائل شرح المعني أو توضيحه أو إخراجه من‬                             ‫مهاراته في كشف غوامضها(‪.)24‬‬
‫المعني الأغمض إلى الأوضح‪ ،‬بتعبير الناقد العربي‬            ‫وتتضح نظرة القاضي الجرجاني إلى الشعر‬
 ‫القديم(‪ ،)29‬ولذلك عد الشاعر ُمجي ًدا في نظر الناقد‬  ‫وقيمته والمنهج المتبع في تمييز جيده من رديئه في‬
  ‫العربي القديم‪ ،‬إذا جمع في شعره عدة تشبيهات‬            ‫قوله‪“ :‬وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء‬
  ‫تتميز بالوضوح بين طرفيها من مثل قول امرئ‬                ‫في الجودة والحسن بشرف المعني وصحته‪،‬‬
                                                       ‫وجزالة اللفظ واستقامته‪ ،‬وتسلم السبق فيه لمن‬
                                        ‫القيس‪:‬‬            ‫وصف فأصاب‪ ،‬وشبَّه فقارب‪ ،‬و َب َده فأغزر‪،‬‬
                   ‫كأ َّن قلوب الطير رطبًا ويابسا	‬
              ‫لدي وكرها العناب والحشف البالي‬

                                       ‫أو قوله‪:‬‬
                      ‫له أيطلا ظبي وساقا نعامة‬
   13   14   15   16   17   18   19   20   21   22   23