Page 32 - merit 48
P. 32

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪30‬‬

                                                      ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

  ‫التي تضمنت موازنة نقدية‪ ،‬ومفاضلة معللة بين‬           ‫المرء عن العلاقة بينهما‪ ،‬وعن خصوصية كل واحد‬
  ‫الكاتبين المسرحيين «إيسخلوس» و”يوربيدس”‪.‬‬               ‫منهما وما يختص به كل واحد منهما عن الآخر‪.‬‬
‫وتعتبر هذه الموازنة النقدية بمثابة الحجر الأساس‬          ‫مما لا شك فيه أن الأدب موضوع النقد وميدانه‬
  ‫الذي سيشيد عليه النقد الأدبي نظرياته اللاحقة‪،‬‬         ‫الذي يعمل فيه‪ ،‬غالبًا‪ ،‬يستمد منه وجوده ويسير‬
 ‫والتي من خلالها استطاع أن يخلق لنفسه مسا ًرا‬            ‫في ظله راص ًدا خطاه واتجاهاته(‪ ،)12‬فلا يستغني‬
‫مو َّح ًدا واستقلا ًل تا ًّما عن الأدب‪ ،‬وهو ما سيتضح‬
 ‫‪-‬فيما بعد‪ -‬في الآداب العالمية والأوربية على وجه‬      ‫الأدب عن النقد كما لا يوجد نقد دون نص أدبي(‪،)13‬‬
                                                       ‫ولما كان الأدب ينزع بطبيعته إلى الحرية والتجديد‬
                                    ‫الخصوص‪.‬‬            ‫واكتشاف آفاق جديدة يحلق فيها ويعبر عنها‪ ،‬فإن‬
  ‫ويقدم لنا الأدب العربي مثا ًل قو ًّيا ‪-‬فيما يخص‬        ‫النقد يظل مقي ًدا يقف عند حدود دراسة الأعمال‬
                                                         ‫الأدبية بقصد الكشف عما فيها من مواطن القوة‬
    ‫الحس النقدي‪ -‬في نتاج أوس بن حجر وزهير‬                ‫والضعف وإصدار الأحكام عليها(‪ ،)14‬وهي علاقة‬
    ‫ابن أبي سلمى والنابغة الذبياني من شعراء ما‬            ‫طبيعية‪ ،‬لكن من المهم التنبيه إلى أنها ليست من‬
‫قبل الإسلام‪ ،‬ذلك أن الأديب حين يقدم على تعديل‬           ‫طرف واحد‪ ،‬أي أن النقد ليس فاعلية تابعة للأدب‬
 ‫إنتاجه‪ ،‬أو حذف جزء منه‪ ،‬إنما يمارس عملية نقد‬             ‫دائ ًما‪ ،‬وإنما هناك تفاعل بينهما‪ ،‬بمعنى أن النقد‬
   ‫ذاتية تستند إلى مبادئ نقدية معينة‪ ،‬يضاف إلى‬            ‫متأثر بالأدب ومؤثر فيه‪ ،‬وتقوم بين الفاعليتين‬
‫ذلك أن النابغة كان يمارس النقد الأدبي في المحافل‬                      ‫علاقة متبادلة ذات طابع جدلي(‪.)15‬‬
‫العامة‪ ،‬وتروى عنه مواقف نقدية(‪ ،)19‬لكن في حدود‬         ‫من هنا نفهم أن الأدب سابق على النقد في الوجود‪،‬‬
   ‫ضيقة ارتبطت في معظمها بالتأثر والنقد الذاتي‬         ‫إلا أن وجود النقد لا يقوم إلا بوجود الأدب‪ ،‬وهذه‬
                                                        ‫العلاقة قديمة قدم الأدب نفسه‪ ،‬تدل على أن النقد‬
                    ‫المرتبط بملكة الذوق الخاص‪.‬‬              ‫الأدبي لازم الخلق الأدبي منذ القديم‪ ،‬وإن لم‬
                                                         ‫يتبلور كفعالية مستقلة إلا في مراحل متأخرة(‪،)16‬‬
                                                      ‫نظ ًرا للالتباس الذي كان قائ ًما بينهما في أول الأمر‪،‬‬
                                                          ‫فقد شهد تاريخ النقد الأدبي محاولات مستمرة‬
                                                              ‫للتوصل إلى تعريف جامع مانع ‪-‬كما يقول‬
                                                       ‫المناطقة‪ -‬ولكن كل محاولة كانت تتضمن التشديد‬
                                                             ‫على نواح تتناسب مع مختلف طبيعة المذاهب‬

                                                      ‫النقدية‪ ،‬وتزداد هذه الصعوبة وضو ًحا بسبب تباين‬
                                                       ‫الاتجاهات النقدية في العصر الحديث(‪ ،)17‬لأنه «كان‬
                                                      ‫في أول الأمر تأثر ًّيا غير قائم على مناهج أو مدارس‬

                                                          ‫محددة الأصول‪ ،‬حتى جاء الفيلسوف الإغريقي‬
                                                      ‫“أرسطو»‪ ،‬فوضع لأول مرة في تاريخ البشر نظرية‬

                                                        ‫فلسفية عامة لجميع الفنون عندما أرجعها جمي ًعا‬
                                                       ‫إلى محاكاة الطبيعة والحياة‪ ،‬ثم قرر ما هو واضح‬

                                                                    ‫من أنها تختلف في الوسيلة فقط»(‪.)18‬‬
                                                          ‫ويمدنا التاريخ اليوناني بمثال حي على التطور‬
                                                         ‫والنضج الذي عرفه النقد‪ ،‬ويخبرنا بأن أول من‬
                                                          ‫مارس النقد الأدبي ممارسة واعية وهادفة عند‬
                                                      ‫اليونان ‪-‬وربما في تاريخ الأدب‪ -‬هو الكاتب الهزلي‬
                                                         ‫«أريستوفان»*‪ ،‬ولا سيما مسرحيته «الضفادع»‬
   27   28   29   30   31   32   33   34   35   36   37