Page 50 - merit 48
P. 50

‫العـدد ‪48‬‬   ‫‪48‬‬

                                                      ‫ديسمبر ‪٢٠٢2‬‬

           ‫أخرى‪ ،‬وتغير المشهد‪ ،‬أو قطع الأحداث‪.‬‬           ‫العقلية العربية‪ ،‬فصارت عقلية ناقلة‪ ،‬تجهض كل‬
        ‫تنصب الغميضة مسر ًحا عالميًّا تتحرك فيه‬                 ‫من يتمرد عليها‪ ،‬بغية إقامة فكر مستنير‪.‬‬
     ‫الشخصيات ويمسرح النص الحكائى‪ ،‬متحر ًكا‬
   ‫في رحابة بين المسرح والرواية‪ ،‬ويصير الطفلان‬            ‫ثمة فجوات سردية ‪-‬بالطبع‪ -‬تؤدي إلى تشظي‬
     ‫شاهدين على الأحداث‪ ،‬وتتحول الحكايات بين‬          ‫الحدث‪ ،‬وتتيح للمتلقي أن يعمل خياله بحرية‪ ،‬ليكمل‬
  ‫عبثية وسوريالية‪ ،‬ويلعب قناع المهرج والبلياتشو‬        ‫الحدث‪ ،‬أو يحلله‪ ،‬ويفسره‪ ،‬يناقشه‪ ،‬يقبله‪ ،‬يرفضه‪،‬‬
 ‫لعبة المراوغة‪ ،‬وتتحرك لعبة «الغميضة» من حيزها‬
‫كلعبة‪ ،‬إلى حيز آخر كابوسي يثير الارتعاب والقلق‪.‬‬            ‫كل ذلك داخل إطار القصة الأم التي يعود إليها‬
       ‫تتحول الشخصيات الرئيسة إلى شخصيات‬               ‫الخطاب السردي من آن لآخر‪ ،‬وهو ‪-‬في كل ذلك‪-‬‬
‫هامشية‪ ،‬فهل أراد الكاتب أن تكون «الغميضة» لعبة‬        ‫يحاول التحرر من ربقة التاريخي الخانق‪ ،‬ومساءلته‬
    ‫يمارسها السارد مع جمهور القراء؟ هل صارت‬
 ‫حياة البشر أقرب إلى حياة الدمى‪ ،‬المشدودة بحبال‬                                       ‫لصالح المعاصر‪.‬‬
 ‫تحركها أصابع قوية‪ ،‬وتلعب الإسقاطات السياسية‬               ‫للمكان في «كيميا» دوره المؤثر‪ ،‬فالرواية رحلة‬
    ‫والاجتماعية والدينية بما يهب دلالة على واقعنا‬      ‫مكان من الإمارات «دبي»‪ ،‬إلى تركيا‪ ،‬إلى مقام «ابن‬
  ‫المأزوم؟ تتحول إلى احتفالات كرنفالية‪ ،‬ومن أجل‬          ‫الرومي»‪ ،‬انتقال من عالم العربية إلى التركية‪ ،‬من‬
‫الوصول لذلك ترتدي الشخصيات ملابس فرعونية‪،‬‬             ‫عالم صحراوي واضح وجلي إلى عالم ضبابي‪ ،‬تلعب‬
    ‫ويونانية‪ ،‬ورومانية‪ ،‬ويظهر على خشبة المسرح‪،‬‬          ‫فيه الجبال والثلوج دو ًرا في سير الحدث‪ ،‬ويعاني‬
   ‫مماليك وعثمانيون وعرب وحبش وبدو وأفارقة‬             ‫السارد من متاهة‪ ،‬غميضة يقع فيها‪ ،‬غميضة اللغة‪،‬‬
                                                          ‫فهو لا يعرف التركية اللهم إلا كلمات قليلة ج ًّدا‪،‬‬
            ‫وفلاحون وصعايدة وعسكر وحرامية‪.‬‬              ‫والآخر لا يجيد العربية أو الإنجليزية‪ ،‬فالعماء هنا‬
‫نحن أمام خطاب سردي يلعب على المكشوف‪ ،‬معلنًا‬               ‫عماء لغوي صوتي دلالي‪ ،‬يوسع من الهواجس‪،‬‬

   ‫عن استراتيجيته وأهدافه صراحة‪ ،‬دون مواربة‪،‬‬                          ‫وسوء الفهم‪ ،‬والغربة‪ ،‬والاغتراب‪.‬‬
    ‫رغم هذه الأقنعة التى حرصت الشخصيات على‬               ‫الغميضة لعبة كنا نلعبها ونحن صغار أيام كانت‬
 ‫ارتدائها لإخفاء هويتها‪ ،‬إلا أنه لم يقع في المباشرة‪.‬‬  ‫شوارعنا آمنة‪ ،‬فإذا جاء وليد علاء الدين ونقلها على‬
    ‫هذا السرد عليه أن ينسف الحدود بين السارد‬           ‫الورق‪ ،‬يتعرض المتلقي لكل أنواع الخطر‪ ،‬بداية من‬
‫والمتلقى والكاتب‪ ،‬فأنت تسمع صوت الكاتب متخفيًا‬        ‫خلخلة المفاهيم وانتها ًء بدعوته الضمنية والحاثة على‬
  ‫وراء السارد‪ ،‬والسارد قد يتمرد على الكاتب‪ ،‬وإذا‬
‫أرهفت السمع فقد يصلك صوت المتلقى‪ ،‬هذه التقنية‬                                         ‫الرفض والتمرد‪.‬‬
  ‫أبعدت رواية الغميضة من أن تصنف «مسرواية»‬            ‫في رواية «الغميضة» يعاني الطفلان الاغتراب وعدم‬
‫كالتى قدمها توفيق الحكيم في القرن الفائت‪ ،‬فاللعبة‬
  ‫هنا ليست مزاوجة بين نوعين‪ ،‬لكنها نسف حدود‬                ‫إدراكهما لقواعد اللعبة التى يمارسها الكبار في‬
     ‫النوعين‪ ،‬فتقدم لنا ما سميته «تفاعل الأنواع»‪.‬‬     ‫البداية‪ ،‬فأقنعة المسرح تتبدل بين الباكي والضاحك‪،‬‬
  ‫لا يكتفي الكاتب بتفاعل الأنواع الأدبية‪ ،‬بل يدخل‬      ‫ودخول الحكاية الشعبية‪ ،‬والألعاب الشعبية‪ ،‬وتوتر‬
   ‫أنوا ًعا من الفنون الجميلة والفنون القولية‪ ،‬يدخل‬
                                                          ‫ينتج من السرعة في التنقل السردي بين الأزمنة‬
      ‫فنون المشاهدة‪ ،‬والسماع‪ ،‬والقراءات المختلفة‪،‬‬      ‫المتعددة‪ ،‬هي أزمنة فائتة‪ ،‬قام السارد بنفض الغبار‬
      ‫والأداء الراقص‪ ،‬وتسريع الإيقاع الذى يتبعه‬         ‫عنها‪ ،‬فأعطاها قبلة الحياة‪ ،‬وأعاد تقديمها محمولة‬
  ‫المحتفلون بميلاد جلال الدين الرومي‪ ،‬والحوارات‬         ‫بحمولات فكرية ودلالية‪ ،‬وما عليك أيها المتلقي إلا‬
   ‫عبر العالم الافتراضي‪ ،‬كل ذلك يسرع من إيقاع‬          ‫أن تعرف أصول اللعبة‪ ،‬وتفك شفرة تلك الدلالات‪،‬‬
  ‫الحكاية الرئيسة‪ ،‬حكاية كيميا التى اخترقت البناء‬
     ‫السردى‪ ،‬وتحريك الكتلة في الفراغ‪ ،‬واستخدام‬                        ‫وإلا ستقع في حبائل هذا اللاعب»‪.‬‬
                                                             ‫تتعدد الأصوات‪ ،‬فثمة صوت الطفل والطفلة‪،‬‬
                                                      ‫والمهرجون‪ ،‬والشخصيات الآتية من حكايات الأزمنة‬
                                                            ‫الماضية‪ ،‬في محاولة الاغتراب والشعور بالقلق‬
                                                       ‫والتوتر‪ ،‬ثمة خصائص الكتابة الشذرية‪ ،‬تتحقق في‬
                                                        ‫التغيير المستمر للزمان والمكان‪ ،‬ودخول حكاية في‬
   45   46   47   48   49   50   51   52   53   54   55