Page 127 - merit 40 apr 2022
P. 127

‫‪125‬‬  ‫نون النسوة‬

      ‫ذاكرة كل من يدخل إليها هار ًبا كان أو طري ًدا‬      ‫‪ -1‬الصحراء (الخارج المهيمن)‬
 ‫ليبدأ بعدها بذاكرة جديدة في (أرض النبع المقدس)‬
                                                        ‫«من بعيد تبدو الصحراء الشاسعة وكأنها حبلى‬
   ‫وكأنه يولد من جديد؛ فهو إذن ليست المحطة أو‬                ‫بهذه القرى المتك ّورة والمنكفأة على نفسها‪..‬‬
  ‫الوجهة الأخيرة للعابرين بها‪ ،‬وإنما قنطرة يغسل‬
                                                         ‫على يسارنا البيوت الفقيرة وعلى يميننا الرمال‬
    ‫عليها العابرون ماضيهم حتى وإن اضطروا إلى‬                                             ‫اللانهائية»‪.‬‬
    ‫حمل بعض الذكريات منه ككتاب «عطيل» الذي‬
                                                         ‫تمثل الصحراء قوة طاغية ومكا ًنا مسيط ًرا على‬
      ‫تحمله معها (دوريس) إلى داخل أرض النبع‪،‬‬               ‫الحدث السردي؛ الصحراء بوصفها مكا ًنا له‬
 ‫وآيات الإنجيل والقرآن التي يرددها كل من (ألهم)‬
‫و(دوريس)‪ .‬فتقوم الصحراء كمكان متنا ٍه في الكبر‬           ‫جغرافيته الخاصة (الرمال الحارقة‪ -‬السراب‪-‬‬
  ‫بمحو تجاربهم القديمة ومنح بدايات جديدة‪ ،‬وإن‬                ‫الطائرات‪ -‬التماسيح)؛ فجغرافيتها وزمنها‬
‫كانت في صورة شديدة البدائية تعود إلى عصور ما‬
  ‫قبل ظهور القوانين والأديان السماوية‪ ،‬وتتلاشى‬        ‫الخاص يجعلان منها فضا ًء مضا ًّدا لكل من القرية‬
                                                       ‫وأرض النبع المق َّدس‪ ،‬القرية بشخوصها وونسها‬
  ‫معها حدود الزمان والمكان‪ ،‬ولا يبقى معها سوى‬
 ‫التاريخ الذي تصنعه مكوناتها المكانية التي تتحرك‬          ‫وخضرتها‪ ،‬وأرض النبع المق َّدس بمائها العذب‬
                                                     ‫وذهبها وأشجارها‪ .‬تخرج الصحراء في الرواية عن‬
   ‫في أفعال مضارعة مستمرة «التماسيح تتأملني‪..‬‬
‫ألمس حراشفها‪ ..‬الحجر يتخلخل‪ ..‬يتزحزح‪ ..‬ويتسع‬            ‫سكونها لتشارك القرية في دور الطرد ‪-‬كما هو‬
‫شق»‪ .‬يتحول الزمن إلى الآنية وتتلاشي تاريخانيته‬         ‫الحال مع (ألهم)‪ -‬ووضع حياة العابرين بها على‬
                                                       ‫المحك‪ ،‬إما عبر الحرارة والشمس الحارقة‪ ،‬أو من‬
    ‫فيهدم نفسه ويعيد بناء نفسه من جديد‪ ،‬وكلما‬         ‫خلال اللعب بعقول وخيالات من يم ُّر بها‪ ،‬ووضع‬
 ‫حاول الإنسان بناءه‪ ،‬تتحول الصحراء المتناهية في‬
‫الكبر كما يقول الفرنسي جاستون باشلار في كتابه‬             ‫صو ٍر وهمية أمام أعينهم؛ يقول (ألهم) «كانت‬
                                                          ‫ال ِجمال تقطع ما بيني وبينها من رمال وكأنها‬
     ‫(جماليات المكان) إلى «قيمة أصيلة (حيث يرى‬          ‫تأكلها أك ًل‪ ،‬وعلى مدى الشوف يربض ما يشبه‬
 ‫الإنسان نفسه) متحر ًرا من همومه وأفكاره وحتى‬          ‫قطيع التماسيح الضخمة‪ ،‬أهمس لنفسي‪ :‬هل هذا‬
                                                         ‫هو السراب بعينه؟ مرة أخرى يا رب‪ ،‬يلعب بي‬
    ‫أحلامه‪ ،‬ولا يعود منغل ًقا بثقل جسده ولا أسي ًرا‬     ‫السراب كعادته ويخاتلني فلا توجد تماسيح في‬
                                      ‫لوجوده»‪.‬‬
                                                                                          ‫الصحراء»‪.‬‬
     ‫‪ -2‬الداخل المخاتل‬                                   ‫وتمثل الصحراء أي ًضا عنصر الهرب في حكاية‬
                                                        ‫الحورية (دوريس) الإنجليزية التي هربت وهي‬
     ‫ودون الصحراء‪ ،‬يسيطر عدد من الأمكنة على‬               ‫في السادسة عشر من عمرها من تتبع سيارة‬
 ‫السرد الروائي ويتواتر من مكان لآخر على لسان‬             ‫أبيها لها في طريق رحلتها الأخيرة إلى الأقصر؛‬
                                                      ‫تقول «لا أتذ َّكر تحدي ًدا في أي بقعة نفذ آخر برميل‬
     ‫سارد مختلف في كل مكان (الوريثة وحيدة‪-‬‬             ‫وقود معنا‪ ،‬ثم آخر قطعة بسطرمة وخبز ثم آخر‬
    ‫داخل بيت ألهم الكبير وبيت غبريال)‪ ،‬حكايات‬         ‫قطرة ماء‪ ،‬بعدها تحولت ضحكاتنا إلى دموع‪ ..‬ولا‬
   ‫(الجدة وحيدة‪ -‬داخل بيت ألهم الكبير) وكتاب‬            ‫نرى على مدد الشوف إلا الرمال‪ ،‬تعذبنا الشمس‬
  ‫(ألهم‪ -‬داخل أرض النبع المق ّدس)‪ .‬وهنا يتعاضد‬       ‫الحارقة بلهيبها»‪ .‬ولكن في كلتا الحالتين تحمل تلك‬
‫السرد والمكان في إدارة حركة النص الداخلية التي‬         ‫الصحراء سرها الأكبر‪ ،‬ألا وهو الطرد الذي يدفع‬
 ‫تشبه الدائرة‪ ،‬تبدأ بالوريثة وحيدة ثم كتاب ألهم‬      ‫بصاحبه إلى الداخل‪ ،‬إلى داخل (أرض النبع المق َّدس)‬
‫وحكايات الجدة‪ ،‬ثم تنتهي بالوريثة وحيدة مجد ًدا‪.‬‬       ‫التي يفاجأ من يصل إليها بظهورها المفاجئ أمامه‪،‬‬
   ‫ولكنها ليست الدائرية التي تعني عو ًدا على بدء‪،‬‬
   ‫وإنما تتمدد الأحداث في كل من تلك الأماكن بما‬                ‫حتى يظن أنها الجنة الخالدة بعد الممات‪.‬‬
‫تحمله من ذكريات تتكشف مع كل مكان يعود إليه‬                ‫تبدو الصحراء كعنصر مكاني تطهيري يمحو‬
   122   123   124   125   126   127   128   129   130   131   132