Page 128 - merit 40 apr 2022
P. 128

‫العـدد ‪40‬‬   ‫‪126‬‬

                                                       ‫أبريل ‪٢٠٢2‬‬

  ‫الرغم من عجائبيتها ممثِّلة للواقع المعيش‪ ،‬فالنبع‬      ‫السرد مجد ًدا‪ .‬يحمل كل من أمكنة (الداخل) ذاكرة‬
 ‫المق َّدس يأكل جثث الموتى على أنها قرابين يجب أن‬         ‫خاصة به أو يصارع من أجل أن يحتفظ بها بعد‬
 ‫تق َّدم له حتى لا يفيض‪ ،‬وليس لأحد الحق في سفك‬           ‫أن غاب أصحابها عنها؛ فيرى باشلار «الذكريات‬
                                                           ‫ساكنة‪ ،‬وكلما كان ارتباطها بالمكان أكثر تأكي ًدا‬
    ‫الدماء أو الذبح سوى (سلطان) نفسه‪ ،‬كما أ َّنه‬         ‫كلما أصبحت أوضح»‪ ،‬إلا أ َّن المكان يحمل بداخله‬
‫ح َّرم استخدام كلمة (الموت أو الموتى) وح َّرم دخول‬          ‫شخو ًصا تسعى جاهدة نحو هدم تلك الذاكرة‬
                                                                                              ‫وإماتتها‪.‬‬
     ‫الحديقة المحرمة رغم أنها لا تختلف كثي ًرا عن‬       ‫وعليه‪ ،‬تطرح الكاتبة أشكال طمس الذاكرة المكانية‬
 ‫الحدائق الأخرى‪ .‬يمثل (سجن الجبل) الكائن أعلى‬                ‫للإنسان وآليات تلاشيها‪ ،‬إما عن طريق المنع‬
‫الجبل النقيض التام لـ(أرض النبع المق َّدس)؛ فسجن‬          ‫وتحويل الذاكرة إلى تابو أو تجاهلها حتى تموت‬
 ‫الجبل يحمل ذاكرة الأرض كلها‪ ،‬إذ تد ِّون الحورية‬           ‫من تلقاء نفسها‪ .‬ففي بيت (ألهم الكبير) يصير‬
 ‫(دوريس) ما تحفظه وتكتب (لبيبة) ما يجري من‬                 ‫البيت بنية رمزية عن سائر بيوت القرية ويظل‬
   ‫أحداث‪ .‬لذلك تطرح تلك الأرض إلى جانب جدلية‬             ‫شاه ًدا على حادث ألهم مع أبناء غبريال‪ ،‬ولا تلبث‬
                                                         ‫الجدة وحيدة تسرد قصص وحكايات كل من م َّر‬
      ‫(الداخل‪ -‬الخارج)‪ ،‬جدلية الـ(فوق‪ -‬تحت)‪،‬‬              ‫على هذا البيت بأزواجهن وأولادهن‪ ،‬ولكن ينعقد‬
   ‫الـ(فوق) أكثر حرية على الرغم من نعته بسجن‬
                                                       ‫لسانها عند الحديث عن (ألهم)؛ فتسعى أمه ‪-‬الجدة‬
      ‫الجبل‪ ،‬بينما الحركة في (أرض النبع المق َّدس)‬        ‫وحيدة‪ -‬وأخوه عبد القادر لتناسي ذلك الحادث‬
   ‫مقيَّدة بقوانين (سلطان) وحده‪ ،‬فعبر الفضاءات‬
‫المكانية لتلك الجدلية تخلق المفارقة ج ًّوا لا يخلو من‬  ‫وتحويل (ألهم) إلى تابو يمنع الحديث عنه‪ ،‬ويتحول‬
                                                       ‫غيابه إلى غياب معنوي وجسدي‪ .‬ولا يختلف الحال‬
                                       ‫الدهشة‪.‬‬
 ‫لكن إن كان هناك طمس متعمد لذاكرة المكان‪ ،‬فهل‬               ‫في بيت غبريال كثي ًرا وإن ظ َّل خاليًا من البشر‬
  ‫ماتت الذاكرة هي الأخرى أم ف َّرت إلى مكان آخر؟‬           ‫لما يقرب من ثلاثة أرباع أحداث الرواية‪ ،‬سوى‬
                                                          ‫من أثاث يعلوه التراب وجنبات غرفة مريم التي‬
           ‫‪ -3‬داخل الداخل‬                               ‫تحمل لقائها الحميمي بـ(ألهم)‪ ،‬وأيقونات العذراء‬
                                                          ‫التي لم تختلف نظرتها عن نظرات مريم نفسها‪،‬‬
‫عند إدراك (الوريثة وحيدة) للظلم الذي ُو ِّجه لأبيها‬    ‫فيهاجر أهل غبريال إلى كندا من أجل إماتة الذكرى‬
   ‫والذي تسبب في ظلمها هي الأخرى بالنتيجة‪ ،‬لم‬              ‫أو الهرب منها‪ ،‬ويتم حبس مريم في قبو المنزل‬
                                                        ‫لمدة أربعين عا ًما حتى صارت أشبه بشبح تتوقف‬
‫تتح َّمل البقاء خارج غرفتها وصارت حكايات الجدة‬
   ‫وتاريخ العائلتين لا يمثِّل لها سوى مجموعة من‬                            ‫ذاكرته عند اليوم الذي قررت‬
 ‫الأكاذيب‪ ،‬فف َّرت إلى (كتاب ألهم) باحثة عن أجوبة‬                               ‫فيه الاختفاء عن الأعين‪.‬‬
   ‫وذاكرة حقيقية‪ .‬في كل مكان‬
   ‫(داخل) في هذه الرواية يكمن‬                                                 ‫ويكون طمس ذاكرة المكان‬
     ‫مكان آخر أشد خصوصية‬                                                      ‫أي ًضا عبر تشويه الحقائق‬
  ‫وصغ ًرا في الحجم ولكنه أعظم‬                                                ‫واللعب باللغة والعقول كما‬
                                                                         ‫الحال في (أرض النبع المق َّدس)‪،‬‬
‫من حيث أهميته‪ ،‬لأنه يحمل كل‬
  ‫الأسرار بداخله‪( .‬كتاب ألهم‪-‬‬                                                   ‫بعد أن أصبح (سلطان)‬
     ‫قبو بيت غبريال‪ -‬الحديقة‬                                                ‫كما يوحي اسمه هو الحاكم‬
   ‫المحرمة)‪ ،‬يصبح كل من هذه‬
  ‫الأماكن الصغيرة المغلقة بؤرة‬                                                ‫والمتصرف الأوحد في تلك‬
      ‫مكانية تحوي كل الأسرار‬                                                 ‫الأرض والوحيد الذي يتقن‬
   ‫والإجابات عن أسئلة ك ٍل من‬                                             ‫العربية الفصحى‪ .‬يتبدى النبع‬
      ‫(الوريثة) و(ألهم)‪ .‬تحوي‬                                              ‫أي ًضا كبنية مكانية رمزية على‬
   123   124   125   126   127   128   129   130   131   132   133