Page 37 - merit 40 apr 2022
P. 37

‫‪35‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

    ‫إلى ضرورة دراسة اللغة في علاقتها التاريخية‬          ‫ذلك أن النثر العربي يحمل در ًسا قي ًما في إعادة‬
    ‫الإنسانية‪ ،‬وليس من داخلها‪ ،‬فيقتصر الأمرعلى‬                                ‫تشكيل المفهوم الثقافي‪.‬‬
  ‫النظر في الأساليب والبحث عن العلاقات وحصر‬
‫الأشكال والنماذج الفريدة‪ .‬يقول ناصف‪ ،‬مستخد ًما‬           ‫في الفصل الثاني من كتاب محاورات مع النثر‬
   ‫ضمير الجمع نحن واستحضار صورة الحاضر‬                 ‫العربي‪ ،‬وتحت عتبة لافتة يطرح ناصف تأويلية‬
   ‫بتوظيف المضارع المبدوء بالنون «لا بد في قراءة‬        ‫لكتاب البيان والتبين للجاحظ‪ ،‬حيث يؤول جهد‬
   ‫الجاحظ من الاهتمام بشيء وراء حدود البلاغة‬
    ‫والبيان‪ ،‬شيء أقرب إلى استعمال المجتمع للغة‪،‬‬           ‫الجاحظ في البيان والتبين إلى محاولة تتخطى‬
   ‫نحن نتصور أمور اللغة تصو ًرا تجريد ًّيا‪ ،‬ونكاد‬        ‫محاولة الحصر‪ ،‬والجدير بالإشارة أن تأويلية‬
   ‫نهمل تصور الجدل الذي تعيشه اللغة أو يعيشه‬            ‫ناصف في هذا الفصل تتخذ من قراءة الآخرين‬
                                                         ‫منطل ًقا لها‪ ،‬حيث يعرض ناصف بداية لما درج‬
               ‫المجتمع بين التحقيق والمكابدة»(‪.)21‬‬   ‫الناس عليه‪ ،‬وما قال به أبو هلال العسكري‪« ،‬فإن‬
 ‫مما يجعل الباحث يقول أن محاورة البيان والتبين‬      ‫الناس من بعد الجاحظ درجوا أن يميزوا بين الخطأ‬
                                                         ‫والصواب اللغوي‪ ،‬وراحوا يتصورون الجاحظ‬
    ‫محاورة لأساليبنا المعاصرة في فهم النصوص‬         ‫تصو ًرا غير ملائم‪ .‬ظنوا أن الجاحظ معني بالقواعد‪.‬‬
  ‫لاسيما البنيوية‪ ،‬محاورة البيان والتبين استدعاء‬       ‫الواقع أن أبا هلال العسكري قرأ البيان والتبيين‬
                                                          ‫قراءة سيئة‪ .‬قال إن الكتاب يشتمل على خطب‬
                ‫للماضي ليحاور بنفسه الحاضر‪.‬‬             ‫رائعة‪ ،‬وأخبار بارعة‪ ،‬وأسماء الخطباء والبلغاء‪،‬‬
 ‫وتبدأ تأويلية ناصف للبيان والتبين بالوقوف على‬
                                                                  ‫ومقاديرهم في البلاغة والخطابة»(‪.)19‬‬
   ‫كلمة مفتاح‪ ،‬هي الفتنة‪ ،‬الفتنة التي استعاذ منها‬       ‫ومن ثم تطرح المحاورة صورة مغايرة للجاحظ‬
  ‫الجاحظ قائ ًل‪« :‬اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول‬     ‫غير تلك التي اعتاد عليها الباحثون‪ ،‬ولعلني أكون‬
                                                       ‫مصيبًا حين أقول إن القراءة الثانية التي يقدمها‬
     ‫كما نعوذ بك من فتنة العمل»(‪ )22‬ليرى ناصف‬        ‫ناصف في المحاورات‪ ،‬ليست إلا در ًسا قوامه نقض‬
  ‫أن الفتنة المستعاذ منها هي وجه من وجوه سوء‬         ‫الأنظمة اللغوية المغلقة الساعية خلف حصر البحث‬
  ‫استعمال اللغة يقضي على التواصل‪ ،‬ويحول بين‬              ‫اللغوي والبلاغي في إطار البحث عن العلاقات‪،‬‬
                                                      ‫والأبنية‪ ،‬والأسلوب‪ ،‬حيث يرى ناصف أن البحث‬
             ‫المرء وذاته ويحول بين المرء والناس‪.‬‬     ‫اللغوي في البيان والتبين «أقرب إلى تصوير متاعب‬
                                                    ‫الاستعمال اللغوي‪ ،‬والتطور‪ ،‬الذي جد على العربية‪،‬‬
      ‫‪ -2‬بلاغة التأويل‪:‬‬                                  ‫واختلاف موازين النظر من الناحية التاريخية‪،‬‬
    ‫اللغة والوعي بالكلمات‪:‬‬                            ‫وعلاقة اللغة بالمجتمع‪،‬‬
                                                         ‫ووظائف اللغة»(‪.)20‬‬
 ‫من يتأمل محاورات مع النثر العربي لا يمكنه بأية‬        ‫فمن يتأمل محاورات‬
   ‫حال أن يتجاهل‪ ،‬طرح ناصف لفرضية إشكالية‬            ‫ناصف يلاحظ أنه يؤول‬
                                                       ‫الشواهد التي أوردها‬
 ‫اللغة وعلاقتنا بها‪ ،‬ودورها لفهم العالم من حولنا‪،‬‬    ‫الجاحظ في كتابه‪ ،‬ليؤكد‬
     ‫هل اللغة مقصودة بذاتها؟ أم يمكننا من خلال‬        ‫وجهة نظره القائلة بأن‬
    ‫الكلمات السعي نحو معرفة متجددة بالعالم من‬       ‫الجاحظ في البيان والتبين‬
                                        ‫حولنا؟‬          ‫يؤكد ضرورة النظر‬
                                                         ‫خلف حدود البلاغة‬
   ‫لا شك عندى من هيمنة مفهوم جادامر للغة على‬          ‫والبيان‪ ،‬يشير الجاحظ‬
     ‫فكر ناصف‪ ،‬لاسيما حين يقر جادامر بفاعلية‬          ‫‪-‬وفقا لرؤية ناصف‪-‬‬

 ‫اللغة‪ ،‬فليست اللغة عند جادامر ألفا ًظا تحل إحداها‬
   ‫محل الأخرى‪ ،‬بل هي كيان قائم وفعال‪ ،‬يسيطر‬
    ‫عليها الإنسان‪ ،‬حين يجعلها قادرة على الحوار‪،‬‬

‫فاللغة دائ ًما تخفى معنى خلف الدلالات القصدية أو‬
  ‫المعاني الإشارية للعلامات اللفظية‪ ،‬بمعنى أنه على‬
   32   33   34   35   36   37   38   39   40   41   42