Page 39 - merit 40 apr 2022
P. 39

‫تبدأ تأويلية ناصف للبيان والتبين‬                           ‫بروح لا تنفك عن تلك السمات السابقة‪ .‬يقول‬
                                                               ‫ناصف‪« :‬لو قرأنا كلام أبي العلاء عن العريا‬
      ‫بالوقوف على كلمة مفتاح‪ ،‬هي‬                                ‫والثريا لوجدنا متس ًعا من الفروض‪ .‬لا أكاد‬
                                                            ‫أشك في أن أبا العلاء يتفهم مشكلة تقدير عبارة‬
    ‫الفتنة‪ ،‬الفتنة التي استعاذ منها‬
                                                                ‫متداولة بين الناس إذا دعا بعضهم لبعض‪.‬‬
   ‫الجاحظ قائًل‪" :‬اللهم إنا نعوذ بك‬                               ‫يرى أبو العلاء العبارة غير واضحة‪ .‬وأن‬
                                                                ‫استيضاحها ليس شيئًا في مقدور اللغويين‬
   ‫من فتنة القول كما نعوذ بك من‬                             ‫الذين يتعمقون الكلمات‪ ،‬إن الكلمة لا تتضح من‬
                                                            ‫خلال استبدالها بكلمة أخرى على نحو ما يصنع‬
  ‫فتنة العمل" ليرى ناصف أن الفتنة‬
                                                                    ‫كتاب المعاجم ومن سار في فلكهم»(‪.)28‬‬
 ‫المستعاذ منها هي وجه من وجوه‬                                 ‫تصور أبو العلاء البقاء تصو ًرا يجافي الركود‬
                                                             ‫والسكون‪ ،‬ويشوق إلى الحرية‪ ،‬البقاء الإنساني‬
     ‫سوء استعمال اللغة يقضي على‬                               ‫في ذهن أبي العلاء قرين المجاهدة والتطلع إلى‬

    ‫التواصل‪ ،‬ويحول بين المرء وذاته‬                               ‫الحرية‪ ،‬لا يمكننا فهم البقاء في رسالة أبي‬
                                                               ‫العلاء إلا بالبحث عن علاقة الكلمات وتآلفها‬
           ‫ويحول بين المرء والناس‪.‬‬                        ‫م ًعا داخل النص «كلمة البقاء تعيش في حقل واسع‬
                                                            ‫يتألف من كلمات أخرى»(‪ ،)29‬البقاء قرين شجرة‬
           ‫فيصف لغة الشعر بالأسطورية ويقصد‬              ‫وجودها لا يعرف السكون إنما النماء‪ ،‬يستقي البقاء‬
 ‫بالأسطورية‪ ،‬التي لا تتطلب أي إثبات من أي شيء‬          ‫نموه مما أحاطه أبو العلاء من كلمات تتعلق بالأرضي‬
                                                           ‫والسماوي في آن‪ ،‬كجبل الريان والإرب والوريقة‬
   ‫وراء لغتها الخاصة‪ ،‬فالنص الشعري يستحضر‬
     ‫المظهر الخارجي للمجاز وينفتح على مجال من‬                                                  ‫والثريا‪.‬‬
       ‫الغموض يوافق غموض الحياة الإنسانية في‬                ‫يشير ناصف هنا إلى فهم يتخطى فهم البلاغيين‬
                                                            ‫القدامى؛ إذ يرى في النص وحدة واحدة تدور في‬
  ‫مجملها‪ ،‬ويرى في ذلك قيمة للشعر تميزه‪ ،‬فماهية‬             ‫فلك واحد هو البقاء‪ ،‬الكلمات تتفاعل دون الإحالة‬
     ‫الشعر «لا تكمن في وجه قصدي نحو شيء ما‬               ‫الخارجية على شيء ثابت‪ ،‬تتفاعل الكلمات وتتحرر‪،‬‬
                                                          ‫الكلمات ترمز إلى حرية منشودة وتطلع مرغوب لا‬
  ‫آخر‪ .‬فهي تكمن ببساطة في أن ما يكون مقصو ًدا‬               ‫يعرف السكون أو الجمود‪ ،‬تتطابق فيها القضايا‬
 ‫وما يقال يكون ماث ًل هناك في القصيدة ذاتها»(‪،)30‬‬         ‫الوجودية واللغوية‪ ،‬وتشير إلى وعي فعال بالعالم‪،‬‬
  ‫ومتج ًها إي ًضا بعي ًدا عن ذاته يقول «فإن الشاعر‪..‬‬
‫يجب أن يدرك أن ما يقصده هو نفسه لا يتمتع بأية‬                ‫وعي لا يهدأ‪ ،‬يحاول كبح جماح العالم‪ ،‬وإعادة‬
                                                       ‫تشكيله وتكثيفه‪ ،‬لتبقى فيه الاحتمالات مفتوحة لكثير‬
    ‫ميزة خاصة‪ .‬فتصوره الذاتي أو وعيه القصدي‬            ‫من الاحتمالات‪ ،‬فربما كان البقاء في رسالة أبي العلاء‬
  ‫الخاص يكون موج ًها بإمكانات مختلفة عديدة من‬
                                                          ‫بقاء الكلمات‪ ،‬وربما كان بقاء أبي العلاء نفسه‪ ،‬أو‬
     ‫الفهم الذاتي التأملي ويكون مختل ًفا عما ينجزه‬                                     ‫بقاء المثقف عامة‪.‬‬
  ‫بالفعل إذا كانت القصيدة تمثل إنجا ًزا ناج ًحا»(‪.)31‬‬
  ‫وأهم ما يفهم من ذلك ‪-‬فيما أرى‪ -‬إقرار جادامر‬                     ‫‪ -3‬النثر العربي‪:‬‬
                                                         ‫اللغة صناعة التخيل لا الغموض‪:‬‬
    ‫بانفتاح النص الشعري‪ ،‬واعتبار لغته هي مركز‬
    ‫الثقل فيه‪ ،‬تحريره من ذاتية المنتج‪ ،‬وإحالة لغته‬        ‫ينظر جادامر إلى اللغة الشعرية نظرة تنبعث من‬
   ‫إلى صورة خطابية تسمح للقارئ بالتلاعب معها‬               ‫طبيعة الفن الشعري‪ ،‬وطبيعة الحياة الإنسانية‪،‬‬
   ‫وإعادة تفكيكها وتركيبها‪ ،‬مرات ومرات‪ ،‬محاو ًل‬

                                         ‫فهمها‪.‬‬
    ‫وفحوى ذلك أي ًضا أن ثمة انصهارية بين الذات‬

       ‫والموضوع‪ ،‬فما الشعر إلا صورة من صور‬
   34   35   36   37   38   39   40   41   42   43   44