Page 38 - merit 40 apr 2022
P. 38

‫العـدد ‪40‬‬   ‫‪36‬‬

                                                         ‫أبريل ‪٢٠٢2‬‬

‫أنها لا تعدو أن تكون تلاعبًا بالألفاظ‪ ،‬وتحمل غمو ًضا‬        ‫القارئ أن يدخل في حوارية النص‪ ،‬متتب ًعا علاقات‬
      ‫وتعقي ًدا يغلفها‪ ،‬ويقف حجر عثرة دون فهمها‪،‬‬          ‫الكلمات بعضها ببعض‪ ،‬ويحاول الكشف عما يختفي‬
                                                         ‫وراء الكلام وبنيته‪ ،‬من أساليب؛ لفهم العالم والأشياء‪،‬‬
  ‫شريطة الدخول في اللعبة والانخرط فيها‪ ،‬عن طرق‬             ‫منطل ًقا مما هو حاضر في النص‪ .‬يقول جادامر‪« :‬في‬
  ‫تأمل الكلمات‪ ،‬واحترام جسديتها الكائنة في النص‪،‬‬          ‫مجمل معرفتنا بأنفسنا‪ ،‬وفي مجمل معرفتنا بالعالم‪،‬‬
 ‫لا استبدالها بغيرها‪ ،‬وهذه أهم المبادئ المستفادة من‬
‫جادامر ودروسه في الفهم خاصة‪ ،‬والتأويل الفلسفي‬               ‫نكون دائ ًما واقعين في شرك اللغة‪ ،‬التي هي لغتنا‪..‬‬
                                                            ‫تعلم الكلام لا يعني تعلم استخدام أداة معدة سل ًفا‬
                           ‫(الهيرمنويطيقا) عامة‪.‬‬          ‫لتعيين عالم يكون مألو ًفا لنا على نحو ما‪ ،‬وإنما يعني‬
‫في ضوء ذلك يمكننا أن نفهم تأويلية ناصف للرسالة‬           ‫اكتساب ألفة ومعرفة بالعالم نفسه وأسلوب مواجهته‬
                                                             ‫لنا»(‪)23‬؛ إذ ليست الكلمة علامة يختارها المرء‪ ،‬ولا‬
      ‫التي كتبها أبو العلاء المعري إلى عبد السلام بن‬
       ‫الحسين صاحب خزانة الأدب‪ ،‬والتي يقول في‬                 ‫هي علامة يكونها أو يعطيها لآخر‪« ،‬وهي ليست‬
   ‫مطلعها‪« :‬أطال الله بقاء سيدي الشيخ إلى أن تنقل‬        ‫موجو ًدا يلتقطها ويمنحها مثالية المعنى لكي يجعل من‬
  ‫ُعر َيا‪ ،‬وتنطق العرب ب ُمكبر الثريا‪ ،‬وأدام عزه إلى أن‬
‫يصبح إراب‪ ،‬وهو با ٌز في الجو أو غراب‪ ،‬كم أكتب فلا‬          ‫وجودها وجو ًدا آخر ظاه ًرا‪ ..‬تكمن مثالية المعنى في‬
                                                                                        ‫الكلمة نفسها»(‪.)24‬‬
                      ‫يصل‪ ،‬وأنا من ذلك منتصل‪:‬‬
‫يا حبذا جبل الريان من جب ٍل وحبذا ساكن الريان من‬           ‫وهذا ما يفهمه ناصف ويشير إليه شار ًحا في كتابه‬
                                                           ‫نظرية التأويل‪ ،‬حين يقول‪« :‬اللغة فيما يرى جادامر‬
                                           ‫كانا‬
       ‫وحبذا نفحات من يماني ٍة تأتيك من قبل الريان‬           ‫ليست علامة ولا شك ًل رمز ًّيا خلقه إنسان‪ ،‬فماذا‬
                                                           ‫تكون الكلمات‪ ،‬أو ًل‪ ،‬ليست أشياء تنتمي إلى إنسان‪،‬‬
                                     ‫أحيانا»(‪.)26‬‬          ‫إنها تنتمي إلى الموقف‪ ،‬المرء يبحث عن الكلمات التي‬
    ‫حيث يقدم ناصف قراءة تكشف عن محاولة أبي‬
   ‫العلاء المعري الفلسفية في تناول فكرة البقاء بروح‬          ‫تنتمي إلى الموقف‪ ،‬قد نقول الشجرة مورقة‪ .‬ليس‬
 ‫لا تخلو من فكاهة‪ ،‬ومرح فلسفي يحمل وعيًا لغو ًّيا‪،‬‬            ‫المهم هنا هو شكل العبارة أو كونها شيئًا صنعه‬
     ‫وتأم ًل عمي ًقا‪ ،‬لقضايا الإنسان الوجودية متمثلة‬          ‫الإنسان‪ .‬الحقيقة المهمة هو انكشاف الشجرة في‬
    ‫في فكرة البقاء؛ إذ يرى ناصف في هذه الفقرة من‬
     ‫الرسالة ممارسة حرة للكلمات‪ ،‬حين تتحرك في‬                                            ‫ضوء معين»(‪.)25‬‬
  ‫فلكين‪ ،‬فلك الشهوة والرغبة في الصعود إلى السماء‪،‬‬           ‫اللغة إذن لدى ناصف؛ ضرب من ضروب الكشف‬
‫والرغبة في البقاء عن طريق حب الأرض والتعلق بها‪.‬‬             ‫عن نمط من أنماط الوعي الفعال‪ ،‬ليست ضر ًبا من‬
  ‫وتلك الثنائية ماثلة أي ًضا في جبل الريان‪ ،‬وما تمثله‬    ‫ضروب البحث المجرد عن البنية أو العلامة الغائمة‪ .‬أو‬
   ‫من تكرار لافت بما تحمله من ثبات وتطلع للأفق‪.‬‬
  ‫فالجبل الصاعد مستقر من ناحية متطلع من ناحية‬                                       ‫استبدال دلالة بأخرى‪.‬‬
 ‫أخرى‪ ،‬وك ٌّل يدور في فلك البقاء‪« .‬لقد رمز أبو العلاء‬      ‫هذا ما يطرحه النثر العربي ونرى إلحاح ناصف في‬
 ‫رم ًزا حسنًا إلى مشكلة الثبات بكلمتي العريا والثريا‪.‬‬
 ‫لأمر ما قرن أبو العلاء الثبات بوضع لغوي تعسفي‬                 ‫الإشارة إليه من خلال محاوراته للنثر العربي‪.‬‬
                                                           ‫تقوم القراءة التأويلية في محاورات مع النثر العربي‬
       ‫أو وهمي حتى نستحي منه ونقبل التغير»(‪.)27‬‬             ‫في بعدها الرئيس ‪-‬فيما أفهم‪ -‬من منطلق الإشارة‬
  ‫لقد حاول أبو العلاء ‪-‬فيما نفهم من ناصف‪ -‬إعادة‬
                                                             ‫الدائمة إلى التماثل بين الإنسان والكون‪ ،‬لكن هذا‬
    ‫صيغة مفهوم البقاء فلسفيًّا‪ ،‬فالبقاء الذي يتداوله‬     ‫التماثل لا ينتمي تما ًما إلى فكرة المحاكاة‪ ،‬قدر الانتماء‬
   ‫الناس وقد تعاهدوا على الدعاء به بعضهم لبعض‪،‬‬
‫يتناوله المعري بروح لا تخلو من إبدع ومرح وتعمق‪،‬‬                ‫إلى الاعتقاد بالقدرة على خلق الأشياء بالكلمات‪،‬‬
   ‫ولكي نفهم ما قام به المعري يتطلب ذلك منا إعادة‬                ‫والتلاعب الحر الفعال بالألفاظ لإنتاج معرفة‬
    ‫النظر في طرق التأتي للكلمات والرغبة في فهمها‪،‬‬
                                                           ‫ووعي إنساني بالكون والأشياء وقضاياه الفلسفية‬
                                                                                              ‫والوجودية‪.‬‬

                                                             ‫ومن هنا كان بإمكاننا وف ًقا للتأويل دو ًما أن نجد‬
                                                           ‫معرف ًة ووعيًا بالعالم من حولنا في نصوص وصفت‬
   33   34   35   36   37   38   39   40   41   42   43