Page 40 - merit 40 apr 2022
P. 40

‫العـدد ‪40‬‬   ‫‪38‬‬

                                                     ‫أبريل ‪٢٠٢2‬‬

   ‫يدافع ناصف عن الغموض الذي يغلف نص أبي‬                ‫الفن‪ ،‬والفنان فيما يرى جادامر يعبر عن خبرته‬
     ‫العلاء ويرى في إعزاز أبي العلاء له «نو ًعا من‬         ‫بالوجود من خلال الفن‪ ،‬وما الفن إلا تجسيد‬
     ‫الطموح إلى المثل التي ضاعت في عصره وبعد‬
    ‫عصره‪ .‬كان يرى اللغة قابلة للاختلاط محتاجة‬        ‫للحقيقة من خلال الوسيط الحسي المتمثل في الشكل‬
                                                           ‫الذي تتوارثه الأجيال‪ ،‬ولا يصبح موجو ًدا إلا‬
   ‫–بين وقت وآخر‪ -‬إلى الكلمات الغريبة لكي تذكر‬
   ‫الناس بالعود المستمر إلى النقاء والبراءة والثقة‪.‬‬    ‫بمحاولة فهمه عبر الحوار دون الفصل بين شكله‬
   ‫كانت الكلمات الغريبة رمز الوقار والحياء ورمز‬                                           ‫ومضمونه‪.‬‬
   ‫العزلة المعطاء‪ ،‬ورمز التعفف عن مكان واسع في‬
  ‫الحياة»(‪ ،)35‬ولفهم الرسالة يفترض ناصف علاقة‬          ‫وفي هذا تمييز للغة الشعر عن اللغة العادية‪ ،‬فلغة‬
                                                           ‫الشعر ‪-‬فيما يرى جادامر‪ -‬مقصودة بذاتها‪،‬‬
      ‫انسجام بين رسالة الغفران وأدب أبي العلاء‬
   ‫بصورة عامة‪ ،‬ورؤيته للغة الشعر خاصة‪ ،‬يقول‬            ‫يتراكب فيها المعنى والصوت والصورة في وحدة‬
‫ناصف‪« :‬ليس غريبًا أن يمضي أبو العلاء في الدفاع‬           ‫واحدة؛ «فلغة الحياة اليومية ‪-‬شأن لغة العلم‪-‬‬
    ‫عن ذاكرة العربي الشاعرة التي تجعل الشعراء‬           ‫تشير إلى شيء ما بخلاف ذاتها وتختفي وراءه‪.‬‬
  ‫يدافعون ويحاورون ويجادلون عن شعرهم‪ ..‬أبو‬              ‫وفي مقابل ذلك‪ ،‬فإن لغة الشعر تظهر ذاتها حتى‬
‫العلاء يمسي ويصبح في أمور الشعر‪ .‬أمور الشعر‬             ‫حينما تشير‪ ،‬لدرجة أنها تبقى ماثلة بذاتها وفقا‬
                                                            ‫لحسابها الخاص‪ ،‬فاللغة العادية تشبه عملة‬
    ‫لا تنفصل عن أمور النحو والرواية والاشتقاق‬
 ‫والأخطاء‪ .‬وهذا كله يؤدي إلى التساؤل عن العلاقة‬        ‫نتداولها فيما بيننا عو ًضا عن شيء ما آخر‪ ،‬بينما‬
                                                           ‫اللغة الشعرية تكون أشبه بالذهب نفسه»(‪.)32‬‬
                        ‫بين جوانب الرسالة»(‪.)36‬‬
  ‫مركز الثقل في رسالة الغفران ‪-‬من خلال تأويلية‬          ‫ولا يعنى هذا بحال من الأحوال أن جادامر ينفي‬
                                                       ‫القصدية عن الشعر‪ ،‬بل يشير إلى طبيعية قصدية‬
    ‫ناصف‪ -‬الاشتغال باللغة‪ ،‬اشتغا ًل مثم ًرا يرمي‬      ‫مغايرة ‪-‬فيما أرى‪ -‬لا يمكن اختزالها في معنى ما‬
     ‫إلى المعرفة المتعمقة عن طريق الكلمات‪ ،‬وبحثها‬      ‫واحد يمكن الوصول إليه‪ ،‬وإنما يشير إلى «عدد لا‬
                                                     ‫محدد من التحقيقات الممكنة‪ ،‬وهذا بالضبط ما يمنح‬
       ‫ومحاولة استيعابها بروح ترمي إلى السحر‬
  ‫والأسطورة وصناعة لغة شاعرية تقوم على تأمل‬               ‫الشعر أولوية على الأشكال الفنية الأخرى(‪.)33‬‬
                                                          ‫ومناط ذلك طبيعة اللغة الشعرية الخاصة التي‬
           ‫الكلمات ونسجها في بناء ُيطرح للتأمل‪.‬‬      ‫يصفها جادامر بالأسطورية(‪ ،)34‬لأن التصديق الذي‬
     ‫وتقوم شاعرية اللغة في رسائل الغفران ‪-‬فيما‬         ‫نمنحه له يعتمد عل فعل القول ذاته‪ ،‬كما حكايات‬
‫يرى ناصف‪ -‬على تكثيف المادي وتحويله إلى طيف‬
     ‫روحي‪ ،‬آخ ًذا بروح الظرف ومتعة الأدب التي‬              ‫الآلهة والناس تتمتع بالوجود فقط من خلال‬
  ‫يتغنى بها الشعراء‪ ،‬دون أن تقول شيئًا «لا يقول‬       ‫الرواية‪ ،‬ولا وجود موضوعي لها إلا من خلال تلك‬
‫أبو العلاء شيئًا معينًا لأنه يحتمي بالظرف‪ ..‬رسالة‬    ‫الرواية‪ ،‬فلغة الشعر تقترب من الأسطورة حينما لا‬
 ‫أبي العلاء رسالة في مفهوم الخيال الشعري‪ ،‬ذكر‬
  ‫أبو العلاء شجر الحور يقود إليه ملك من الملائكة‬             ‫تتطلب إثبات من أي شيء آخر وراء ذاتها‪.‬‬
  ‫ويقول خذ ثمرة من هذا الثمر فاكسرها‪ ،‬فإن هذا‬             ‫هذا هو الأصل المعرفي الذي ينطلق منه ناصف‬
   ‫الشجر يعرف بشجر الحور‪ .‬فيأخذ سفرجلة أو‬                 ‫‪-‬فيما أرى‪ -‬وهو يحاور رسالة الغفران لأبي‬
    ‫رمانة أو تفاحة أو ما شاء من الثمار‪ ،‬فيكسره‪،‬‬           ‫العلاء المعري‪ ،‬حين يجعل القضية المحورية في‬
   ‫فتخرج منها جارية حوراء عيناء‪ ،‬تبرق لحسنها‬            ‫رسالة الغفران هي فن معالجة الكلمات‪ ،‬ومفهوم‬
 ‫حورات الجنان‪ ..‬هذا مثل من أمثلة الخيال‪ :‬الفاكهة‬      ‫الخيال الشعري‪ ،‬لا سيما وهو يقرر أن الكلمات في‬
‫نساء‪ ،‬والنساء فاكهة‪ .‬والكلمات تنطوي على قصص‬            ‫رسالة الغفران تتحول تحو ًل غريبًا‪ ،‬عميق الغور‪،‬‬
      ‫وخيال‪ .‬تتحول الكلمات على يد أبي العلاء إلى‬       ‫فكل كلمة تنمو في تفاعلها مع غيرها من الكلمات‪،‬‬
 ‫كائنات‪ .‬الكلمات ليست مجرد تواطؤ أو اصطلاح‪..‬‬          ‫الكلمات والكائنات تترامى إلى التوحد لتصنع نم ًطا‬
                                                      ‫من الانسجام الخيالي‪ ،‬الباحث عن الحرية والاتزان‬

                                                                                  ‫الروحي‪ ،‬عن الفهم‪.‬‬
   35   36   37   38   39   40   41   42   43   44   45