Page 107 - ميريت الثقافية العدد 30- يونيو 2021
P. 107

‫‪105‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫قصــة‬

  ‫أو تقل‪ُ ،-‬ترى كم يدفع المرء لاستعادة يوم فائت؟‬             ‫مقعد السيارة الخلفي‪ ،‬ثم عاد ليغلق الباب الزجاجي‬
    ‫والشكر موصول أيضا‪ ،‬فتثليث ‪-‬التي لا أعرفها‬
       ‫حتى الآن‪ -‬ليست إحدى هذه البقع الشائهة‪.‬‬                                       ‫للمكتب بالقفل‪.‬‬

  ‫أطلقت الحافلة سرينة مميزة‪ ،‬ثم َع َّر َج ْت على مكان‬        ‫تجاورنا بالمقعد الأمامي‪ ،‬اجتاحتنا ‪-‬على ما يبدو‪-‬‬
  ‫مبلط‪ ،‬تعلوه شرائح الإسبستس المموجة‪ ،‬لتتوقف‬
                                                             ‫نوبة شجن مباغتة‪ ،‬جعلت دموعنا تنحدر في صمت‪،‬‬
                             ‫أمام ماكينة البنزين‪.‬‬
                       ‫قال السائق بلهجة شاميَّة‪:‬‬             ‫لم يمض وقت طويل‪ ،‬حتى احتضن كل منا الآخر‪،‬‬
    ‫هيا يا شباب؛ هنا مطعم وحمام وشاي وسوبر‬
                   ‫ماركت‪ ،‬أمامكم نصف الساعة‪.‬‬                                  ‫قبل تحرك الحافلة المتوجهة إلى تثليث‪.‬‬
               ‫استفسر راكب ملت ٍح حاسر الرأس‪:‬‬
                       ‫وماذا عن الصلاة يا أخي‪.‬‬               ‫أسلمت نفسي من جديد لهواجس وتوقعات الرحلة‪،‬‬
‫أكمل السائق ‪-‬الذي لم يلامس الأرض بعد‪ -‬مشي ًرا‬
                                                             ‫التي لا أتوقع انحيازها إلى صفي‪ ،‬ألقيت بلوم شديد‬
                                ‫إلى مبنى جانبي‪:‬‬              ‫على الظروف‪ ،‬محم ًل إياها مسئولية الدفع بأمثالي‬
     ‫‪ -‬هذه مصلاة مزودة بمكان للوضوء‪ ،‬ويمكن‬
                                                             ‫‪-‬ممن ُيفترض ارتقاؤهم في أوطانهم‪ ،-‬إلى مثل هذه‬
          ‫لأصحاب السفر الطويل الجمع والقصر‪.‬‬                  ‫(الشحططة)‪ ،‬التي تدخلهم في تجارب صعبة‪ ،‬بدعوى‬
  ‫كان جاري في المقعد يغط في ثبات عميق‪ ،‬بدأه منذ‬
   ‫لحظات تحركنا الأولى‪ ،‬يبعث فمه المفتوح بشخير‬               ‫تأمين مستقبل أسرهم ‪-‬على رأي أهل قريتنا‪.-‬‬
‫متنوع الدرجات‪ ،‬أخمد هذا في نفسي‪ ،‬أية رغبة يمكن‬
                                                             ‫أفرج صدري عن تنهيدة محدودة‪ ،‬وأنا أردد قول‬
       ‫أن تلوح‪ ،‬لتبادل الكلمات مع أي من الركاب‪.‬‬
   ‫مع توقف الحافلة عمدت إلى ملامسة كتفه‪ ،‬حتى‬                 ‫أبي العلاء المعري‪« :‬تع ٌب كلها الحياة‪ ،‬فما أعج ُب إلا‬
  ‫صار على حافة الاستيقاظ‪َ ،‬د ِهش العينين من آخر‬                                        ‫ِمن راغ ٍب في ازدياد»‪.‬‬

      ‫كلام السائق‪ ،‬انفل ُّت من أمام ساقيه بصعوبة‪،‬‬            ‫اجتازت الحافلة عدة مداخل ومخارج متتابعة‪،‬‬
     ‫متجاه ًل ما ظننته تساؤ ًل عن المقصود بالجمع‬
                                                              ‫احتلت سري ًعا نهر الطريق الواسعة بالغة الجودة‪،‬‬
                                       ‫والقصر؟‬                 ‫التي ساعدتها على الانطلاق الرهيب‪ .‬ال ُّر َّكاب كأن‬
        ‫المطعم عديم المقاعد المرتفعة‪ ،‬تغطي أرضيته‬            ‫على رؤوسهم الطير‪ ،‬أو كأنهم ذاهبون لحساب يوم‬
   ‫مستطيلات من السجاد والموكيت‪ ،‬تعلوها مساند‬
                                                             ‫الدين‪ ،‬تلوح مظاهر الاغتراب على قسماتهم‪ ،‬يتهامس‬
                         ‫إسفنجية لصق الحوائط‪.‬‬
       ‫ألقيت رحلي بأحد الأركان‪ ،‬زاه ًدا في مخالطة‬            ‫الهنود والأفغان بعربية مكسرة‪ ،‬أما المصريون‬
     ‫الآخرين‪ ،‬السمسونايت إلى جواري‪ ،‬بينما بقيت‬
   ‫الكبرى في بطن العربة‪ ،‬تذكرت مظروف صديقي‬                   ‫فمعروفون بسيماء الحزن التي تعتلي وجوههم‪ ،‬ر َّن ْت‬
 ‫المصري‪ ،‬المعبأ بقرصه البيتية‪ ،‬فتحت السمسونايت‬                ‫في أذن ّي مقول ٌة قديمة لجدتي‪ ،‬حال بكاء الصغار بلا‬
 ‫منتش ًل إياها‪ ،‬انتابني تجاهها شعور غريب بال ُك ْره؛‬           ‫سبب معقول‪« :‬الصغار ح َّمالوا أحزان زي الكبار»‪.‬‬
  ‫أتأتي من قرية بوسط الدلتا‪ ،‬على بعد مئات الكيلو‬                                    ‫همس ُت لنفسي مؤ ِّمنا‪:‬‬
     ‫مترات‪ ،‬لتستقر في بطني هنا وسط الصحراء؟!‬                 ‫هكذا حالنا يا جدتي‪ ،‬لكنني ‪-‬بعد إذن جنابك‪،-‬‬
  ‫استعادت ذاكرتي البصرية مشه ًدا قدي ًما‪ ،‬لنائحات‬
 ‫قريتنا المتشحات بالسواد‪ ،‬وهن بين القبور يوزعن‬               ‫سوف أستبدل كلمة (الصغار) بكلمة (المصريين)‪،‬‬
    ‫ُقرص الميتين علينا‪ ،‬رحمة على الأرواح الراحلة‪.‬‬
     ‫أمسك ُت بالمظروف المنتفخ‪ ،‬وتركته لصق جدار‬                                ‫لتصبح العبارة مناسبة لمقتضى الحال‪.‬‬

               ‫الركن‪ُ ،‬م ْطلِ ًقا َق َس ًما ألا يقربها فمي‪.‬‬  ‫تمرق السيارة بين جبال على الجانبين‪ ،‬تشبه جبال‬

                                                             ‫الحزن الرابض فوق كاهلي‪ ،‬الشمس تجري نحو‬
                                                             ‫ب َّك ْر ِت‬
                                                                          ‫لو‬  ‫ماذا‬  ‫العصر الراحل‪ ،‬والعمر أي ًضا يجري‪،‬‬
                                                                                     ‫أيتها الإعارة‪ ،‬وأتي ِت عقب التخرج؟‬

                                                                                    ‫ألم يكن هذا أدعى للتحمل؟‬

                                                                                    ‫ولكن‪..‬‬
                                                                ‫لا عليَّ الآن سوى ت َقبيِل يد َّي شك ًرا‪ ،‬فما لاح ْت‬
                                                               ‫ُف ْر َج ٌة مفتوحة بين الجبال‪ ،‬إلا ولاحت منها ُبقع‬
                                                             ‫شائهة مجهولة الملامح‪ ،‬لا يظهر لها سكان‪ ،‬كديرة‬

                                                                  ‫(العفيرية) الرهيبة‪ ،‬التي رمي ُت فيها عامين من‬
                                                             ‫عمري‪ ،‬لن يعودا أب ًدا‪ ،‬لقاء ِح ْز َمة من الريالات ‪-‬تزيد‬
   102   103   104   105   106   107   108   109   110   111   112