Page 131 - ميريت الثقافية العدد 30- يونيو 2021
P. 131

‫نون النسوة ‪1 2 9‬‬                                      ‫والمحرك لتداعيات هذين النقيضين سلبًا أو إيجا ًبا‬
                                                      ‫هي الذات بنزعاتها وأشواقها وآلامها‪ ،‬وبما تملكه‬
    ‫فصورة الثمرة المعطوبة‪ ،‬والورقتين اليابستين‪،‬‬        ‫من حنين يتجاوز حدود الواقع عبر فضاء النص‬
   ‫لا تجعلنا نشعر بنوع من المفاجأة عندما تتحول‬       ‫إلى واقع متخيل تتمنى وجوده؛ لكي تتمكن فيه من‬
 ‫الذات إلى جثة في النهاية‪ ،‬واستخدام اللون الأبيض‬     ‫تكوين ذاتها التي ترغب في أن تكون‪ ،‬وتغيّر هويتها‬
  ‫في نهاية المقطع يمثل نو ًعا من المفارقة التي تكسر‬
 ‫أفق توقع المتلقي‪ ،‬فاللون الأبيض ذو دلالة إيجابية‬        ‫بما يحقق آمالها وتطلعاتها؛ ويحدد ذاتها التي‬
                                                       ‫ترغب فيها‪ .‬فانشغال الشاعرة بموضوعة الهوية‬
     ‫في الذاكرة الثقافية الجمعية‪ ،‬ولكن توظيفه هنا‬       ‫في ديوان (مقهى لا يعرفه أحد) علامة سيمائية‬
  ‫في موقف سلبي مليء بمظاهر الموت والحزن كان‬          ‫واضحة بصورة قصدية أو خفية في الديوان‪ ،‬وهذا‬
   ‫بمثابة محاولة من الشاعرة لبث نوع من الغرابة‬         ‫ما نلمحه صراح ًة أو تلمي ًحا‪ ،‬فمنذ مطلع الديوان‬
    ‫على نصها‪ ،‬لا سيما أنها تعود بعدها إلى نظرتها‬     ‫تظهر الأزمة التي تعيشها الذات الإنسانية الأنثوية‬
                                                        ‫المبدعة بوضوح‪ ،‬وهي عدم رضائها عن واقعها‬
                            ‫السوداوية‪ ،‬إذ تقول‪:‬‬
                           ‫طوال حياتي لم أعرف‬                ‫المعيش ورغبتها في الهروب منه‪ ،‬إذ تقول‪:‬‬
                                                                                    ‫جسد متعادل أنا‬
                             ‫ما الخير؟ ما الشر؟‬
                             ‫لكنني عرف ُت الحزن‬                     ‫أجمع الليل والنهار في بؤرة العدم‬
                                                                        ‫فأصبح صف ًرا في خانة الميلاد‬
                                         ‫عرف ُته‬
                          ‫تحت سقف بيتنا البعيد‬                   ‫من ذلك كله جاءت رغبتي في الهروب‪.‬‬
                                                        ‫وتقوم ضمائر المتكلم‪ :‬الظاهرة والمستترة‪ ،‬وياء‬
                                ‫(كنت أحدق فيه‬           ‫الملكية الموظفة في هذا المقطع الشعري بدور مهم‬
                        ‫إلى أن صار نقطة سوداء‬            ‫في تأكيد خصوصية المعاناة التي تحيط بالذات‬
                                                      ‫الشاعرة؛ المعاناة التي جعلتها ترى أن الهروب من‬
                                ‫في عين الشمس)‬           ‫الواقع أمر يمثل الخلاص من واقع مأزوم‪ ،‬هذا‬
 ‫إن المقاطع الشعرية السابقة توضح لنا أن توظيف‬        ‫الواقع الذي دفعها في بداية هذه القصيدة أن تعتقد‬
                                                        ‫أن الحياة مرحلة تؤهل للموت الذي تسعى نحو‬
     ‫الشاعرة لضمائر الملكية والمتكلم‪ ،‬بالإضافة إلى‬
    ‫كونه تعبي ًرا عن خصوصية التجربة‪ ،‬يهدف إلى‬                          ‫صناعته لتتخلص من معاناتها‪:‬‬
 ‫اختزال الذات الإنسانية الأنثوية في الوعي‪ ،‬فهي لا‬                                   ‫أنا جديرة بالموت‬
‫تعدو أن تكون مجرد «أنا» ضمير الحضور‪ .‬فالفكر‬
   ‫والتجارب المحيطة بجميع أطرافها‪ ،‬متطابقين في‬                                ‫أعضائي كلها مؤهلة له‬
    ‫ذلك مع الذات الأنثوية المبدعة‪ ،‬أي مع مقولاتها‪،‬‬                             ‫بسهولة يمكن تحويلي‬
   ‫وبالتالي فإن وعيها قادر تمام القدرة على اختبار‬
  ‫كنه هذه الذات‪ ،‬فيكون لها مرآة عاكسة‪ .‬وما ذاك‬                                    ‫إلى كومة من تراب‬
    ‫سوى تطابق «أنا» الوعي مع ذاتها من خلال ما‬                                                     ‫‪..‬‬
‫يحضر لديها‪ ،‬وما تعيشه‪ .‬ولا سيما أن الميتافيزيقيا‬
  ‫تختزل الذات في الوعي‪ ،‬في الأنا ضمير الحضور‪.‬‬                         ‫جئ ُت إلى الحياة كي أصنع موتي‬
 ‫فكل تجارب الذات الإنسانية المبدعة الواقعية كانت‬                             ‫روحي لحم ودم وعظام‬
   ‫حاضرة في وعي الشاعرة ومثّلته في نصوصها‪.‬‬                                       ‫رأسي ثمرة معطوبة‬
 ‫فوعيها لم يعترف إلا بما حضر لديه وبالتالي اتخذ‬                                ‫يداي ورقتان يابستان‬
 ‫شكل الدلالة والمعنى والهوية فتطابق مع مقولاتها‬                                 ‫ساقاي جذعا شجرة‬
                                                                                 ‫جثة بيضاء سأكون‪.‬‬
                              ‫وإنتاجها الإبداعي‪.‬‬
 ‫ويبدو لنا أن الحزن المسيطر على الشاعرة في ثنايا‬         ‫واستدعاء صور شعرية مليئة بمفردات الموت‪:‬‬
  ‫ديوانها حزن أصيل‪ ،‬شجن مر ينضج به كأسها‪،‬‬              ‫«معطوبة‪ ،‬يابستان‪ ،‬جثة» يكشف عن أزمة الذات‬
                                                        ‫الشاعرة وسيطرة نظرة التشاؤم واليأس عليها‪،‬‬
     ‫نتيجة مواقف مختلفة جعلتها مهدرة المشاعر‪،‬‬
 ‫مهدرة الوجود العاطفي‪ ،‬وهي مواقف عدة ذكرتها‬
   126   127   128   129   130   131   132   133   134   135   136