Page 19 - ميريت الثقافية العدد 30- يونيو 2021
P. 19
17 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
كما كان يح ّض على إعمال العقل في كل شيء ،وقد كلمات الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة
كانت كتاباته بمثابة الترياق الذي ُيخلِّص ال ُأ ّمة والإشراق أكثر الكلمات جريا ًنا على لسانه منذ
من أدواء العصر كالتع ّصب والكراهية والإرهاب،
وقد أشاد الكثيرون من علماء الغرب والشرق بما يبدأ الدرس إلى أن ُيت َّمه .وكان لا ينطق بكلمة منها
إلا م َّد ألفها فأسرف في الم ِّد ،وربما أخذه شيء
كان يكتبه. من ذهول وهو يمد هذه الألف فيغرق الطلاب
موقف طه حسين غريب ويدعو إلى التساؤل في ضحك يخافت به بعضهم ويجهر به بعضهم
الآخر؛ ويفيق الأستاذ من ذهوله على هذا الضحك،
خا ّصة أن مؤلفات الرجل دليلنا ،لا تن ُّم عن فيلوم الطلاب لا على أنهم يضحكون ،بل على أنهم
شخص يوصف بال ّسطحية وال ّسذاجة ،كما وصفه
طه حسين ،ومن ث ّم يحق لي أن أتساءل :هل طه لا يشاركونه في الإعجاب بجمال الطبيعة وجلال
حسين لم ي ّطلِع على كتابات الرجل ،وظل محتف ًظا الكون وبهاء القمر حين يرسل ضوءه المشرق على
بالصورة السلبية التي ك ّرسها للأزهر وشيوخه، صفحة النيل ،ويم ُّد ياء النيل فيسرف في مدها
منذ تلك الصورة التي لم تفارقه عن رجال الأزهر ويأخذه ذهول يرد الطلاب إلى ضحك متصل.
عبر صورة هذا الشيخ الذي كان حذاؤه «غلي ًظا « -وفي ذات يوم ختم الأستاذ دروس العام،
وق ّرر الطلبة قبل الدرس أن يكون الفتى لسا َنهم
كصوته ،جافيًا كثيابه ،فلم يكن يتخذ العباءة، في شكر الأستاذ على دروسه القيِّمة ،واشترطوا
وإنما كان يتخذ «الدفية» ،كان حذاء الشيخ غلي ًظا
عليه أن يشكر الأستاذ بكلام غير مفهوم،
ملئت بالمسامير ،وكان ذلك قد جافيًا ،وكانت نعله واشترط عليه الأستاذ إبراهيم مصطفى ألا تخلو
من البلى .فف ّكر في الطالب له أمتن للحذاء ،وأمنع جملة من حديث الشكر هذا الذي يجب أن يكون
الذي تصيبه مسامير هذا الحذاء في وجهه أو فيما طوي ًل من إحدى هذه الكلمات الست :الجمال
والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق.
يبدو من جسمه»( .الأيام :ج ،1ص ،)115وما إن و َقبِل الفتى هذه الشروط كلها ،فخطب وأجاد،
ولكنه لم يقل شيئًا ،ور ِض َي الأستاذ كل الرضا،
انتقل إلى الجامعة ورأى أحد شيوخها ُيد ِّرس وقال للفتى :لا يكافئ هذه الخطبة الرائعة إلا ديك
له ،حتى ُنبش ال ُجرح القديم ،وعاقب الرجل على رومي ،ولكنك لن تأكله وحدك ،وإنما يشاركك
فعلة غيره ،ممن سخروا من طه حسين ووصفوه فيه زملاؤك جمي ًعا ،فإذا كان يوم الجمعة فأنتم
تعرفون أين أقيم!»( .الأيام ،ج )359 ،358 ،3
بأوصاف مؤلمة كان لها بالغ الأثر في العنف الذي -هكذا عاقب طه حسين
شي ًخا ،بل عالمًا جلي ًل برع
وصل إليه؟ في كتاباته ،وق ّدم للمكتبة
كتابات فكر ّية تثري العقل
إن كانت صورة الأزهر وعلى الأخص رجاله والروح (أين الإنسان،
أحلام في السياسة ،النظام
بهذا السوء ،فإن الواقع يقول إن الأزهر -مع في الإسلام ،نهضة الأمم
وحياتها ،الحكمة والحكماء،
هذا السوء الذي نقله لنا في الأيام -لعب دو ًرا القرآن والعلوم العصرية..
مه ًّما في تنشئة طه حسين الفكر ّية ،ولا يستطيع وغيرها الكثير) ،وكان
هو نفسه أن ينكره ،ففي الأزهر تع ّرف إلى أفكار يدعو في كتاباته إلى التأ ّمل
محمد عبده ،إ ْذ استمع إلى محاضرة أو اثنت ْين من والتفكير ،وهي خصائل
محاضراته ،كما فيه -كما يقول ألبرت حوراني- ح ّض عليها القرآن الكريم،
«اكتسب كل ما كان لا يزال في الوسع اكتسابه
في الأزهر :معرفة واسعة للغة العربية وآدابها
الكلاسيكية التي كان يتقن تدريسها أستاذ
أبعد نظ ًرا من معظم زملائه»( .ألبرت حوراني:
الفكر العربي في عصر النهضة،1939 -1798 :
ص)389
في الحقيقة ثمة تبرير غير مقبول -في ظني على
الأقل -ب ّرر به رجاء النقاش موقف طه حسين