Page 52 - ميريت الثقافية العدد 30- يونيو 2021
P. 52

‫العـدد ‪30‬‬   ‫‪50‬‬

                                                      ‫يونيو ‪٢٠٢1‬‬

  ‫من بيوت الدعارة؛ ومن ثم رسم لها صورة الملاك‬           ‫أن يخبر الآخر للتجول في الشوارع ربما يصطدم‬
   ‫البرئ الطاهر داخله‪ ،‬حتى أنه ظن أن هروبها إلى‬        ‫بالصدفة بالصغيرة ديلغدينا؛ فنرى الروائية تصف‬

     ‫بلاد العرب كان ُمجرد تغرير بها من قبل داني‬          ‫تسكع ماركيز في الشوارع وتأملها‪ ،‬وسرعان ما‬
  ‫تاجر المتا‪ ،‬لكن الحقيقة الواقعية تختلف تما ًما عما‬      ‫تنتقل إلى العجوز الذي يتسكع بدوره باحثًا عن‬
  ‫ظنه العجوز في داخله؛ فالفتاة ليست سوى عاهرة‬            ‫الصغيرة من دون أي فارق أو علامة على أنها قد‬
 ‫صغيرة‪ ،‬وهو ما جعلها تهرب إلى أرض العرب من‬            ‫انتقلت بسردها من ماركيز إلى العجوز‪ ،‬وسرعان ما‬
  ‫أجل المال بعدما باعتها قوادتها إلى تاجر المتا الذي‬  ‫تعود إلى ماركيز مرة أخرى‪ ،‬وهكذا عدة مرات‪ ،‬حتى‬
‫باعها بدوره إلى قواد ثالث هو الشولو رامون؛ لذلك‬           ‫لكأن الأمر لا يختلف عن فيلم سينمائي يحرص‬
                                                       ‫فيه ُمخرجه على الانتقال من مشهد لآخر بالتبادل‪،‬‬
    ‫يرفض العجوز حديث الشولو رامون عن فتاته‬            ‫لنرى ما الذي يفعله كل منهما في نفس الوقت؛ فنقرأ‬
    ‫قبيل التقائها‪« :‬لم ينتظر العجوز المُتلهف لسماع‬    ‫مث ًل‪« :‬وقف العجوز مذهو ًل من الوجع‪ ،‬أخذ يتنفس‬
  ‫أخبار الصغيرة ديلغدينا رد الشولو رامون‪ ،‬باغته‬         ‫بعمق‪ ،‬تصبب جبينه عر ًقا وارتعشت ركبتاه‪ ،‬شعر‬
    ‫بسؤال كاد يجعله ينفجر من الضحك في وجهه‪:‬‬             ‫بدوار وانقلبت معدته‪ ،‬تذكر أن ديلغدينا واقفة إلى‬
 ‫قل لي يا دون‪ ،‬ما نوع العمل الذي تمارسه مانويلا‬         ‫جانبه‪ ،‬فكر أنه من غير اللائق أن تراه في مثل هذا‬
‫لديك؟ لم يتحمل الماتادور سذاجة العجوز‪ ،‬واحترا ًما‬       ‫الضعف المُخزي‪ .‬صلب طوله‪ ،‬مد يده ثانية نحوها‬
 ‫لغابرييل قرر أن يترك لهم المكتب ليتحدثوا بهدوء‪،‬‬           ‫وهو يحاول أن يخفي دموعه الغزيرة عنها‪ .‬لم‬
 ‫وطلب لهم بعض المشروب‪ ،‬وتمنى لهم من كل قلبه‬             ‫يندهش غابرييل من برودة الحياة في الشارع رغم‬
   ‫أن يتوصلوا إلى اتفاق مر ٍض لكلا الطرفين‪ .‬وقف‬           ‫حرارة الجو‪ ،‬لكنه انزعج قلي ًل لكل ذلك التصنع‬
 ‫الشولو رامون يحدق بذهول في وجه العجوز الذي‬
‫اعتقد لوهلة ما أنه خرف‪ ،‬ولا يصلح حتى لأن يحتل‬               ‫المُبالغ فيه‪ ،‬الذي ُيشعر الفرد بسخافة الترف‪،‬‬
  ‫سري ًرا في ُمستشفى المجانين‪ ،‬أردف قائ ًل ُمحاف ًظا‬    ‫ويضعف همة الحياة لديه‪ ،‬اشمأز من المقاهي التي‬
‫على وقاره‪ :‬ماذا تعمل حسب رأيك فتاة في مثل سن‬
‫ووضع مانويلا؟ إنها مومس‪ .‬بسماعه تلك العبارات‬               ‫تخجل من الأرصفة العريضة‪ ،‬وأكثر أي ًضا من‬
  ‫بالغة القسوة عن صغيرته ديلغدينا شعر العجوز‬            ‫همس البشر الذين يخشون سماع أصواتهم وهم‬
  ‫بأنه مسلوب القوى‪ ،‬وأن رأسه ُوضعت للتو تحت‬              ‫يقهقهون من شدة الفرح‪ ،‬وتساءل في سره‪ :‬لماذا‬
‫المقصلة‪ ،‬وأنه سيكون بط ًل بلا أوسمة أُعدم عبثًا في‬     ‫يطأطئ المارة رؤوسهم رغم ارتفاع المباني حولهم؟‬
‫حرب غير عادلة‪ .‬قفز العجوز واق ًفا والغضب ينهش‬
    ‫قلبه‪ ،‬وهو يصرخ في وجه الشولو‪ :‬إنك لا ُتدرك‬             ‫أهو الخوف أم الخضوع للإسمنت العملاق؟»‪.‬‬
    ‫ما تقول؛ صغيرتي ديلغدينا ليست موم ًسا»‪ ،‬أي‬             ‫إن انتقال الساردة هنا من سردها عن العجوز‬
  ‫أن العجوز قد بات يعيش في وهمه الذي اصطنعه‬              ‫إلى ماركيز كان ُمفاجئًا ومن دون أي فواصل أو‬
 ‫لنفسه باتجاه الفتاة‪ ،‬ولا يرغب في تصديق ما يدور‬         ‫إشارات إلى هذا الانتقال‪ ،‬وهو الانتقال المُفاجئ من‬
   ‫على أرض الواقع من كونها ُمجرد عاهرة صغيرة‬            ‫مشهد إلى آخر‪ ،‬وهو أي ًضا ما ستكرره عدة مرات‬
                                                           ‫ُمتتالية بشكل لا تختلف فيه كثي ًرا عن السينما‪.‬‬
                 ‫عرفها في بيت من بيوت الدعارة‪.‬‬             ‫إن وصول كل من المؤلف وشخصيته الروائية‬
    ‫هذه الأوهام التي اصطنعها خيال العجوز تنهار‬          ‫إلى الفتاة الصغيرة حينما يصلان إلى أحد الملاهي‬
     ‫فجأة حينما يرى أمامه ديلغدينا‪« :‬كان منظرها‬         ‫الليلية الكاريبية التي يتواجد فيها اللاتينيين يجعل‬
    ‫خلي ًعا‪ ،‬شنيعة اللباس بظهرها العاري وفستانها‬           ‫الرجل العجوز العاشق أمام الحقيقة الواضحة‬
                                                            ‫التي ُتخالف تما ًما ما يظنه‪ ،‬أو ما لا يرغب في‬
      ‫المصنوع من الجلد اللامع الذي يظهر فخذيها‬            ‫رؤيته؛ فرغم أن العجوز قد تعرف على فتاته في‬
   ‫بفجاجة‪ ،‬كانت تنتعل صند ًل ذهبي اللون ذا كعب‬            ‫بيت من بيوت الدعارة‪ ،‬ورغم أن من عرفته بها‬
 ‫بدا للعجوز على أنه أكثر عل ًّوا من البنايات الشاهقة‬    ‫هي القوادة روسا كاباركس إلا أنه حينما وقع في‬
‫التي رآها هنا في بلاد العرب‪ُ ،‬بهت لون بشرتها أمام‬      ‫عشقها تناسى تما ًما كونها عاهرة التقطها من بيت‬
   47   48   49   50   51   52   53   54   55   56   57