Page 32 - ميريت الثقافية- العدد (29) مايو 2021
P. 32

‫العـدد ‪29‬‬  ‫‪30‬‬

                                                                ‫مايو ‪٢٠٢1‬‬

 ‫وحكايات التّكوين والوجود والنّهايات والملاحم والفتن‬                  ‫وهذا ال ّشكل قام على بناء معمار خا ّص وقلق من‬
       ‫والملل والنّحل‪ ،‬كما يستث ّمر التّهويم وال ّشطحات‬           ‫تش ّظي شطحات الخيال والاستيهامات المظ ّفرة أحيا ًنا‬

     ‫المعهودة في الأحلام والكوابيس والمنامات‪ ،‬ويجنح‬                   ‫بنسيج الواقع‪ ،‬وهي واقعيّة خا ّصة ترصد عالمها‬
  ‫أحيا ًنا إلى الاعترافات واليوميّات والمذ ّكرات‪ ،‬إلى جانب‬       ‫المتخيّل من جذاذات هذا العالم الذي نعيشه ومن كسر‬
‫توظيف لغة الأسلوب ال ّصحف ّي عبر التّقارير والإعلانات‬
                                                                    ‫تفاصيله‪ ،‬وتتح ّدى الأعراف ال ّسرد ّية ال ّسائدة فيه‪.‬‬
       ‫والخواطر والمقالات بعد المرور بقصص العشق‬                      ‫هذا الا ّتجاه يعبّر عن الواقع بما فيه من تناقضات‬
 ‫والفرسان وحكايات ألف ليلة وليلة ومغامرات ال ّشطار‬                   ‫وصراعات يعجز الإنسان عن مواجهتها وحسمها‬
 ‫والعيّارين واللّصوص وال ّظرفاء والحمقى والمتحامقين‬              ‫لصالحه‪ ،‬ويضعها موضع تأ ّمل وتد ّبر من قبل المتل ّقي‬
                                                                    ‫في محاولة تصدر عن يأس عميق بسبب العجز عن‬
     ‫والمؤ ّدبين والعلماء وال ّصالحين والأشرار والف ّجار‬            ‫اكتناه جوهر الواقع‪ ،‬والإلمام بتح ّولاته وانكساراته‬
       ‫وال ّرواة والنّساك وال ّزهاد وال ّرحالة والمكتشفين‬
                ‫والع ّشاق والمجانين‪ ،‬وغيرهم الكثير‪.‬‬                                    ‫وإخفاقاته وآماله وإكراهاته‪.‬‬
                                                                    ‫هذه البنية ال ّسرد ّية تتّسع لتصبح جلبا ًبا فضفا ًضا‬
  ‫نستطيع القول إ ّن الكثير من الإبداعات التي تستدعي‬               ‫قاد ًرا على إخفاء ذواتنا وأهدافها ومغازيها المحاصرة‬
‫التّراث إ ّنما تو ّظفه لتستثمر أجواءه ونجاحاته وإحالاته‪،‬‬
                                                                      ‫بضغط القوانين والمح ّرمات وأنواع ال ّرقابة كا ّفة‪،‬‬
   ‫وتستظ ّل بحضور رموزه ومعاني دلالته الغارقة في‬                 ‫وتق ّوض البنى والخطابات والنّظم ال ّسياسيّة ال ّضاغطة‬
   ‫الوعي الجمع ّي وال ّذاكرة العا ّمة‪ ،‬وهي في الوقت ذاته‬
 ‫تج ّرب حظوظها في تقديم ن ّص على نص‪ ،‬يب ّرر وجوده‬                   ‫والمستلِبة التي تمثّل الآخر عن طريق اختراقها فنيًّا‬
‫بأدواته ونسقه وإبداعه ومس ّوغات حياته‪ ،‬بقدر ما ينقل‬             ‫ورؤيو ًّيا وعدم الاستسلام لسلطانها المهيمن على الوعي‬
‫الماضي إلى الحاضر‪ ،‬ويقول مقولته في الحاضر بصوت‬
‫الماضي الذي قد يكون أعلى صو ًتا في الوجدان الإنسان ّي‬                                                ‫الاجتماع ّي‪.‬‬

       ‫من ال ّصوت الحاضر؛ لارتباطه بمعاني الأكاد ّية‬            ‫ثال ًثا‪ :‬استدعاء الموروث الإنسان ّي والا ّتكاء‬
                                      ‫والموثوقيّة‪.‬‬               ‫عليه في استيلاد ال ّشكل الإبداع ّي الجديد‬

 ‫راب ًعا‪ :‬تداخل الأجناس وتلاقح الأشكال‬                           ‫يستلهم الموروث الإنسان ّي كام ًل في ضوء ثقافة المبدع‬
           ‫وفوضى ال ّتجنيس‬                                           ‫العرب ّي ومعطيات موهبته ومجريات أحداث واقعه‬

    ‫يشهد الأدب العرب ّي في ا ّتجاه واضح وبارز جنوح‬                ‫ليضطلع بمه ّمة تشكيل عالم كامل يج ّسد وعيًا خا ًّصا‬
   ‫الكثير من مبدعيه إلى تداخل الأجناس فيما ينتجون‪،‬‬               ‫وإدرا ًكا جدي ًدا تهيمن الفكرة عليه‪ ،‬وتج ّسده لغة تأخذ‬
                                                                ‫على عاتقها رسم هذا العالم‪ ،‬وتترك الباب موار ًبا لدخول‬
     ‫وهو جنوح مدروس عند الكثير من المبدعين الذين‬
   ‫يرونه ح ّر ّية إبداعيّة وإنتا ًجا جدي ًدا يخترق الموجود‪،‬‬         ‫القارئ والمتل ّقي الواعي الذي لا يعدم وسيلة لإعادة‬
  ‫وقد يسبقه‪ ،‬أو يتف ّوق عليه‪ ،‬كما يرونه انسيا ًقا خلف‬             ‫ترتيب هذا العالم الإبداع ّي وفق صورة حقيقيّة لعالمه‬
‫مناخات تح ّرر ّية وبيئات فكر ّية وأدوات ثقافيّة في معظم‬
   ‫الأحيان‪ ،‬ولع ّل ال ّرواية بالتّحديد هي الأرض الأرحب‬                                  ‫الذي يحياه‪ ،‬ويعيش واقعه‪.‬‬
                                                                         ‫فنجد المبدع يستحضر من ذاكرته ال ّشخصيّة‬
      ‫لهذا التّداخل؛ لأ ّنها الأكثر تح ّر ًرا‪ ،‬والأوسع أف ًقا‪،‬‬       ‫المنبثقة من ذاكرة جمعيّة مفردات موروثه العرب ّي‬
‫والمترامية ال ّضفاف‪ ،‬والقابلة للاستيعاب والتّجديد بفعل‬             ‫والإنسان ّي بل والإنسان ّي كذلك إن دعت الحا ّجة إلى‬
                                                                   ‫ذلك‪ ،‬فنجد استحضار العوالم ال ّصوفيّة ولغة القرآن‬
  ‫خصائص توليدها وآليّات بنائها‪ ،‬وهي بذلك مستم ّرة‬                 ‫الكريم والأحاديث النّبو ّية والمقامات والأمثال والحكم‬
  ‫في التّط ّور‪ ،‬ولم تكتمل ملامحها بشكل حازم بعد؛ لأ ّن‬                ‫والمقولات المأثورة ونصوص الأغاني والأهازيج‬
                                                                   ‫وال ّرسائل والخيالات والأوهام والوصايا والقصص‬
   ‫القوى التي تش ّكله ما تزال فاعلة ومؤ ّثرة‪ ،‬وما تزال‬              ‫ال ّشعبيّة وسير الأبطال والنّخب والأخبار والمغازي‬
‫تتجاذبه في سيرورة من التّح ّول والنّماء والتّغير الم ّطرد‪.‬‬        ‫وال ّسير والمقامات والأسفار والكتب المق ّدسة والملاحم‬
‫هذا التّداخل هو مساحة للجدل؛ فالبعض يبغي أن يلغي‬
   27   28   29   30   31   32   33   34   35   36   37