Page 94 - ميريت الثقافية- العدد (29) مايو 2021
P. 94

‫العـدد ‪29‬‬  ‫‪92‬‬

                                                          ‫مايو ‪٢٠٢1‬‬

   ‫الملامح اعتما ًدا على بنيتها الداخلية‪ ،‬وعمقها الثقافي‬   ‫مما يدفع بشكل مستمر في اتجاه زحزحة الخطابات‬
    ‫والأنثروبولوجي‪ ،‬فالشخصيات في تلك المجموعة‬               ‫المعرفية والسلطوية‪ ،‬التي أسسها ورسخها المجتمع‬
    ‫لا تنتمي إلى ذواتها الداخلية‪ ،‬ونوازعها العاطفية‪،‬‬
 ‫بقدر ما تنتمي إلى الخارج الاجتماعي‪ ،‬الذي تريد من‬                     ‫الذكوري و»الأبوى» طيلة قرون عديدة‪.‬‬
 ‫خلاله ‪-‬تلك الشخصيات‪ -‬أن تفجر تناقضاته وزيفه‬
   ‫وفساده‪ ،‬ولذلك اتجهت بشكل مباشر إلى الاعتماد‬              ‫زمن السرد القصصى‪ /‬الوجه الآخر‬
   ‫على استثمار أبطالها‪ ،‬لترسم رؤيتها السردية التي‬                ‫للزمن الاجتماعي المتحول‬
‫ُتبرز الواقع الاجتماعي‪ ،‬حتي في قصصها التي تتناول‬
  ‫علاقتها العاطفية بالشخصيات‪ ،‬كما في قصة «أمي»‬             ‫تتأسس بنية الزمن السردي في المجموعة القصصية‪،‬‬
   ‫نجد أنها استثمرت دال «الأم» لتنتج مفهو ًما دلاليًّا‬           ‫من بداية الميلاد البشري‪ ،‬هذا الانبثاق الواعي‬
   ‫متفج ًرا حول «الاستغلال» المبطن للأم واستنزاف‬                ‫والمترصد في ذهن الكاتبة‪ ،‬لكيفية تشكل الوعي‬
 ‫طاقتها الإنسانية والزمنية‪ ،‬فنحن نبني عالمنا الذاتي‪،‬‬
     ‫على أنقاض ما تخسره هي من عمرها وأحلامها‪،‬‬             ‫البشري منذ اللحظات الأولى‪ ،‬ووقوعه فريسة للدوائر‬
 ‫وفي مفارقة مؤلمة‪ ،‬حاول السرد صدمة القارئ‪ ،‬حين‬                ‫الاجتماعية والثقافية‪ ،‬التي تعمل على رسم ملامح‬
‫استدرجه إلى نهاية القصة ليدرك حجم «الألم الخفي»‬             ‫الشخصية‪ ،‬وتكوينها ضمن السياقات الثقافية التي‬
  ‫الذي تعانيه المرأة «الأم» في وهبها اللانهائي للحياة‬        ‫تحكمها‪ ،‬والتي تضمن استمرارها كإعادة ميلاد لا‬
  ‫فيما تذوي هي في صمت‪ ،‬تغزو الشيخوخة جسدها‬                  ‫نهائي لنفس الوعي السائد‪ ،‬في قصتها الأولي «عالم‬
‫الهش‪ ،‬بينما نبني عضلاتنا من لحمها المستلب‪ ،‬تموت‬                                                     ‫آخر»‪:‬‬
    ‫الأم في فراغها المعتم‪ ،‬بعي ًدا عن مركز النور الذي‬
                                                           ‫«لا لا‪ ،‬أذني الصغيرة لا تتحمل كل تلك الأفواه التي‬
         ‫يحتكره سرد ًّيا نمو البطل في تطور عكسي‪.‬‬          ‫تتكلم في وقت واحد‪ ،‬بينما يتسابق الجميع على تقبيلي‬
                                                          ‫دون استئذان‪ ،‬وكأني أصبحت ملكهم‪ ،‬والعيون كبيرة‬
‫آليات إنتاج الخطاب النسوي ومفارقات السرد‬
                                                             ‫ج ًّدا ومفتوحة‪ ،‬يخرج منها شعاع يخترق كل نطفة‬
  ‫لا تبرز القضايا التي تتبناها الحركات النسوية هنا‬           ‫مني‪ ،‬فهواء هذا العالم لا يريحني ولم أنسجم معه‪.‬‬
  ‫داخل النصوص القصصية بشكل مباشر‪ ،‬بل تأتي‬
                                                              ‫أخبرني هاتف في عالمي الجميل السابق‪ ،‬أنه ليس‬
      ‫عبر تشكيل سردي‪ ،‬يطمح لبناء مشهدية تفجر‬                 ‫مصيري الأبدي‪ ،‬وأن هناك وقتًا سأخرج فيه دون‬
‫تناقضات الواقع الاجتماعي‪ ،‬الذي تعيشه المرأة‪ ،‬تنجح‬           ‫إرادتي‪ ،‬لأترك كل متعي وأتخبط بين أياد تتقاذفني‬
‫آلية المفارقة السردية‪ ،‬في التعبير عن تلك المعاناة‪ ،‬عبر‬     ‫بين الحين والآخر‪ ،‬وتعتصرني بقوة تكاد تلتهمنى»‪.‬‬

  ‫رصدها من خلال رسم مشهد دلالي مدهش‪ ،‬تنجح‬                         ‫هذه الموازاة الزمنية‪ ،‬التي ترصد بداية الزمن‬
     ‫التفاصيل الهامشية في إعطاء زخم كبير للحدث‪،‬‬                ‫السردي‪ ،‬متلاحمة مع بداية الميلاد‪ ،‬في ربط وا ٍع‬
    ‫الذي سينفجر في نهاية المشهد بصراخ صامت‪ ،‬لا‬            ‫بضرورة فك السلسلة السلطوية التي تبدأ مع اللحظة‬
     ‫تتكئ الكاتبة هنا في إبراز ألمها العميق من خلال‬         ‫الأولي‪ ،‬وفي القصتين الأولي والثانية في المجموعة لم‬
    ‫الصوت الهادر والتشنج الهائج‪ ،‬يأتي الألم خفي ًفا‬         ‫تحدد هوية «جنسانية» معينة للبطل «الطفل الوليد»‬
                                                             ‫في إشارة إلى مدى هيمنة المجتمع في تشكيل وعينا‬
  ‫كضباب في خلفية المرآة‪ ،‬همس خافت يجرح قسوة‬
     ‫الحنجرة الذكورية‪ ،‬في قصتها «المقبلات» تتشكل‬                           ‫البشري سواء كان رج ًل أو امرأة‪.‬‬
   ‫عناصر المرأة «التابعة» التي تخضع لسلطة الرجل‬
                                                          ‫ملامح الشخصيات وانعكاسها على نصف مرآة‬
‫الجمالية‪ ،‬هي تتزين من أجل نجاح لقاء زوجها بموعد‬
    ‫عشاء مع عميل هام لديه‪ ،‬تحاول جاهدة الاهتداء‬                 ‫تتعدد البني الوصفية لملامح الشخصيات‪ ،‬التي‬
                                                              ‫تنبع من الواقع الاجتماعي والذاتي‪ ،‬الذي تعيشه‬
‫«بمساراته» التي رسمها بدقة‪ ،‬لتعطي لها شخصيتها‬               ‫الكاتبة‪ ،‬شخصيات لا تعتمد في وصفها على المظاهر‬
                                                          ‫الخارجية للجسد‪ ،‬وذلك انعكا ًسا لرغبتها في رسم تلك‬
   89   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99