Page 35 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 35

‫‪33‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

   ‫بعضها في حالة من التمرد التاريخي الذي أشعل‬             ‫ساب ًقا أو لاح ًقا للمادة‪ ،‬وإذا كان العالم ثلاثي‬
‫الثورة‪ ،‬أو التمرد الميتافيزيقي‪ ،‬حيث يتمرد الإنسان‬         ‫أو رباعي الأبعاد‪ ،‬أو حتى التغافل عن حقيقة‬
                                                        ‫الموت والتعلل الساذج بالآمال والغرور المضحك‬
 ‫على حاله‪ ،‬نتيجة إحساسه بعبث الوجود‪ ،‬حتى قد‬             ‫الناجم عن النجاح‪ ،‬والضحكة البلهاء المعبرة عن‬
  ‫يصل إلى العدمية المطلقة وإنكار القيم جمي ًعا‪ ،‬مثل‬  ‫السعادة‪ ،‬كل هذا يكاد يكون هز ًل إذا قيس بالمسألة‬
                                                       ‫الجوهرية‪ ،‬وهى مسألة الحياة‪ ،‬وتجاهل للحقيقة‬
    ‫جابر الونايسي الذي لم يتورع عن ارتكاب كل‬           ‫المروعة التي تواجه الفكر الواعي‪ ،‬ألا وهي تجرد‬
  ‫الخطايا بدم بارد‪ ،‬حتى سرقة صندوق التبرعات‬             ‫الوجود من كل معنى‪ ،‬وما يتبع ذلك من شعور‬
‫من مسجد قريته وهرب للقاهرة‪ ،‬وكان دليل إدانته‬         ‫بعبث الحياة ينتهي بالفوضى والتلاشي وقد يصل‬
‫والذي غيَّر مسار حياته كلها تاف ًها عبثيًّا وهو بعض‬
‫(الحمص) الذي تسرب من جيبه بالمسجد! كما نجد‬                                           ‫حد الانتحار(‪.)2‬‬
   ‫أميرة الفايد تنتهج سلو ًكا عبثيًّا يتحدى حتى كل‬       ‫نحن أمام عا َل يستنفذ فيه أُفق المستقبل حقل‬
  ‫دعوات الفوضوية‪ ،‬وف ًقا لما تؤمن هي دون معيار‬            ‫الدلالات والقيم‪ ،‬حيث أضحى الوجود ُمغطى‬
  ‫اجتماعي أو ديني أو قيمي‪« :‬يجب على كل منا أن‬             ‫باللامعنى‪ ،‬وخيّم فراغ معنوي عام على الذات‬
  ‫يصنع لنفسه أفكا ًرا‪ ،‬أفكار تكون له وحده‪ ،‬يسير‬         ‫البشرية‪ ،‬فكيف السبيل لإجراء جراحة تجميلية‬
   ‫بها حياته‪ ..‬أفكار تمنحه السعادة‪ ،‬ليس مه ًّما أن‬     ‫للوجود من جديد ومواجهة هذا الفراغ الوجودي‬
 ‫تكون مثالية أو عظيمة أو معقدة كأفكار الفلاسفة‪.‬‬           ‫والخواء الداخلي والشعور باللامعنى وضياع‬
  ‫قد تكون بسيطة وتافهة وشريرة‪ ،‬المهم أن تكون‬
   ‫له وحده‪ .‬لا يجب أن تشبه أفكار الآخرين‪ ،‬لكنها‬                        ‫المضمون والغرض من الحياة؟‬
                                                       ‫لقد بات العالم الحالي كأنه عالم من الدمى الغبية‬
      ‫وصفته السحرية للحياة»‪( .‬ص‪ )4()150‬وهو‬            ‫المغرورة ضحية الوجود اللاروحي الذي يسحقها‬
    ‫نفس ما تنتهجه أسيل ومروة عزيز التي تخلت‬
  ‫عن أسرتها في الإسكندرية لتعيش حرة‪ .‬والتمرد‬              ‫تحت عبء ثقيل من المادة الميتة‪ ،‬وأدى تحطيم‬
 ‫هنا لم يؤد لا إلى إثبات الذات ولا إلى إضفاء معنى‬    ‫الروابط المستتبة وخلخلة القيم السائدة دون إحلال‬
  ‫للوجود ولا إلى تغيير الواقع الاجتماعي‪ ،‬بل يبدو‬     ‫منظومة أو روابط محلها وهيمنة إحساس بالجدب‬
 ‫التمرد كأنه وسيلة وغاية‪ ،‬سبي ًل ومنتهى‪ ،‬خاصة‬
  ‫أنها شخصيات مستهجنة اجتماعيًّا حتى لو تدثر‬          ‫والموات والآلية واختفاء المسلمات‪ ،‬إلى تخليد حالة‬
  ‫بعضها بغلالة أرستقراطية‬                               ‫الفوضى المزلزلة لروح الإنسان وكيانه‪ ،‬خاصة‬
  ‫مثل أميرة الفايد‪ ،‬سواء من‬                                            ‫في ظل غياب إجابة على الأسئلة‬
  ‫خلال سلوكها الإجرامي أو‬                                           ‫الميتافيزيقية وتعذر تقبل نظام من‬
 ‫من خلال سلوكها التحرري‬                                           ‫القيم المبنية على إرادة علوية حكيمة‪،‬‬
   ‫المنفتح في مجتمع متزمت‪،‬‬                                            ‫مما يجعل مواجهة الحياة مريرة‬
    ‫فتواجه استنكا ًرا ورف ًضا‬                                     ‫قاسية وهي النتيجة الحتمية لمواجهة‬
    ‫اجتماعيًّا‪ .‬إنه تمرد أشبه‬                                                       ‫الحقيقة عارية(‪.)3‬‬
 ‫بالشك المذهبي الهدام ينقض‬                                                       ‫تدور أحداث الرواية‬
                                                                              ‫عقب أحداث ثورة يناير‬
      ‫كل شيء دون أن يحل‬                                                          ‫‪ 2011‬وما تبعها من‬
      ‫محله ما يعوضه‪ .‬وتلك‬                                                     ‫وقائع‪ ،‬والتي تقف منها‬
      ‫النزعة الفوضوية ليس‬                                                      ‫الرواية موق ًفا ضبابيًّا‪،‬‬
 ‫مصدرها الواقع فقط بعبثيته‬                                                       ‫وتعكس حالة التمرد‬
      ‫وسوداويته‪ ،‬بل تسرب‬                                                      ‫الفردي والجمعي الذي‬
  ‫إحساس قاتم بأن الإنسان‬                                                           ‫كان المحرك الأول‬
‫مجرد لعبة في يد القدر‪ ،‬كائن‬                                                       ‫لشخصياتها‪ ،‬فنجد‬

                                                             ‫أحمد قرنى‬
   30   31   32   33   34   35   36   37   38   39   40