Page 46 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 46

‫العـدد ‪31‬‬    ‫‪44‬‬

                                                         ‫يوليو ‪٢٠٢1‬‬

‫لإرادة النسيان؛ كان حضور الموت في إرادة الحياة‪ ،‬وكان‬         ‫الحدثية كتمهيد للصراع الدرامي في الجزء الأول من‬
  ‫الزمن باعتباره هاج ًسا استفهاميًّا؛ اتضح ذلك في طرح‬      ‫الرواية تحت عنوان «الرجل الذي سرق وجهه ورحل»‪،‬‬
    ‫تساؤلات الأنا التي تشبه الهذيان‪ ،‬فيقول البطل‪« :‬ألم‬   ‫مع ملاحظة ان الكاتب تبنَّى آلية التداعي الحر؛ ليبدأ البطل‬
                                                           ‫في سرد حكايته التي بدأت باختطافه هو ومجموعة من‬
 ‫أشف من الشغف لأي شيء؟‪ /‬هل هناك ازدحام وضجر‬              ‫المراهقين من على ناصية الشارع الوحيد في قريته «سرج‬
     ‫في الأعلى كما هو الحال عندنا؟‪ /‬ما موقف الله مني‬       ‫الغول» شمالي «سطيف» انتقا ًما لمقتل جندي‪ ،‬يتج َّل ُهنا‬
                                                            ‫انشطار الانفعالات النفسية للبطل‪ ،‬والتي ُتحيل إلى ما‬
   ‫مؤخ ًرا؟‪ /‬لم لا تهب ريح وتقذفني في الفراغ الكبير؟‪/‬‬     ‫وراء العلاقات‪ ،‬خاصة أنه عانى من ال ُيتم بعد فقدان الأم‬
 ‫ماالذي أرغب فيه ح ًّقا؟‪ /‬هل يعرف أحد معنى أن يتحول‬
  ‫إلى متسول جائع يرفض الآخرون إطعامه؟‪ ..‬إلخ؛ تتج َّل‬         ‫ثم فقدان الأب‪ ،‬ثم توفيت الخالة التي كانت تهتم به‪،‬‬
  ‫ُهنا اللغة النصية القائمة على التساؤلات وما تسعى إليه‬   ‫وزوجة العم التي كانت تعتبره ابنًا بدي ًل‪ ،‬وها هو يعيش‬
‫من إثارة حالة مطلقة من الإدهاش على مستوى العلاقات‪.‬‬
  ‫وإذا اعتبرنا ‪-‬على حد قول فرويد‪ -‬أن الأدب كما ال ُحلم‬      ‫في خدمة الشيخ سليمان بن نوي المجاهد القديم بدي ًل‬
  ‫تجد فيه رغبات اللاوعى مساحة للتحقق الحر؛ فالكاتب‬         ‫عن ولده مراد‪ ،‬يقول البطل‪« :‬إن مراد يستحق أن ُيعدم‬
‫من أجل استعادة توازن ذات البطل‪ ،‬أوجد علاقة دالة بين‬      ‫على الخازوق‪ ،‬لم يقدر نعمة وجود الأب في حياته‪ ،‬وذهب‬
 ‫الرغبة في الحياة التي خاطبتنا بها الذات المحرومة‪ ،‬وبين‬     ‫إلى ألمانيا»‪ ،‬تستدعي الأحداث في الرواية روح نرسيس‬
‫الخيال كبديل ميتافيزيقي جاء مواز ًيا للصراع بين مثالية‬     ‫بخطاب الأنا التي لا ترى إلا ذاتها حتى وإن كانت هذة‬
‫الأفكار وتزييف قيمة العدالة الاجتماعية في منظومة فكرية‬   ‫الذات تعاني الوحدة والتهميش والفقد‪ ،‬ذلك الخطاب الذي‬

    ‫تتسم بالوعي الزائف عندما يقول‪« :‬وجدت في إحدى‬             ‫تم تكثيفه في المونولوج الذهني الحاضر لغو ًّيا الغائب‬
    ‫المرات كتا ًبا عن السعادة‪ ،‬رميته على الفور‪ ،‬وعدت مع‬       ‫واقعيًّا؛ فالمونولوج هو الأسلوب الملائم لتمركز ذات‬
‫الفجر إلى غرفتي لأستمني على صورة ربة بيت خمسينية‬            ‫البطل‪ ،‬ووحدته النفسية‪ ،‬وبفضل مرونته الاستيعابية‬
   ‫علقت في خيالي»‪ ،‬كما أن الاستدعاء الضمني للذكريات‬       ‫يتأسس فضاء تأويلي لمساحات الصمت والاختفاء‪ ،‬ولأن‬
‫ساهم في التجدد الدرامي للأحداث عبر امتداد المعاناة من‬    ‫التخفي أعلى درجات المأساوية؛ نجد أن الإزاحة التي تمت‬
‫الذات إلى الآخر‪ ،‬يتضح ذلك مع العقدة الدرامية باعتبارها‬    ‫على الأماكن اضطرارية حيث لا بديل‪ ،‬والتكثيف الذي تم‬
  ‫«الذروة التي تنشأ من الصراع»(‪ )4‬في الجزء الثاني من‬        ‫على الزمان جاء تأكي ًدا على فوضى الانتماء وعلى الفقد‬
   ‫الرواية المعنون بـ»الجحيم يطل من النافذة» والذي بدا‬     ‫أي ًضا‪ ،‬يقول البطل‪« :‬لا أتقزز من شيء‪ ،‬سبق لي أن بت‬
 ‫لنا فيه الراوي العليم بالشخصيات‪ ،‬سام ًحا للذات الفعلية‬   ‫بعض ليالي في كوخ تقبع بجواره حاوية للنفايات»‪ ،‬ولأن‬
‫للكاتب بالمداخلة على مونولوجات الذات الافتراضية للبطل‬         ‫الذكريات ليست أحدا ًثا مجردة؛ إنما لها وظيفتها في‬
                                                          ‫تنظيم خبرات الإنسان؛ كان ارتفاع حدة الصوت الداخلي‬
             ‫الذي أتقن التخفي‪.‬‬
                                                                  ‫الذي يضيف إلى المعاناة الذهنية بع ًدا جدي ًدا من‬
   ‫ثان ًيا‪ :‬مركزية الذات‬                                            ‫الهواجس‪ ،‬فها هو البطل لا يريد أن يستعيد‬
 ‫النصية وتأزمها الدلالي‬                                               ‫حادثة وجد نفسه على إثرها في مستشفى‬

‫إذا أردنا أن نسعى لفهم ممارسات‬                                     ‫للمختلين نفسيًّا‪ ،‬إلا أنه يرصد لنا كيف احتال‬
    ‫المعرفة الخاصة بالنص‪ ،‬علينا‬                                    ‫على إحدى الممرضات لتساعده على الهرب‪ ،‬ثم‬
   ‫بفهم مأساة الذات التي تتقاطع‬
                                                                               ‫يقول‪« :‬كنت أمنح نفسي اس ًما‬
‫بالضرورة مع المعطيات الاجتماعية‬                                                    ‫مختل ًفا في كل مكان أرحل‬
‫التي يقدمها للمتلقي الراوي العليم؛‬
 ‫فمن الإحباط العاطفي الذي يعاني‬                                                ‫إليه»؛ فهذا الوجود العاري من‬
                                                                                 ‫وسم الماهية أسس إلى لجوء‬
    ‫منه البطل إلى الأحداث التي لا‬                                               ‫الكاتب إلى الميتافيزيقي ليكثف‬
 ‫يرغب في الإفصاح عنها‪ ،‬يتكشف‬                                                     ‫رمزية خطاب المأساة‪ ،‬ولأن‬
                                                                                  ‫صراع الذات يؤسس أي ًضا‬

                                                         ‫أحمد طيباوي‬
   41   42   43   44   45   46   47   48   49   50   51