Page 47 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 47

‫‪45‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

   ‫صورة حديثة له‪ ،‬فقط واحدة قديمة في ِسن المراهقة»‪.‬‬        ‫حضور الذات الممزق بين الصورة والتصور؛ ففي الجزء‬
 ‫هذا ما قاله المحقق رفيق ناصري عن اختفاء البطل‪ ،‬ولأن‬           ‫الثاني من الرواية نحن أمام ذات متورطة في واقعها‬
 ‫الفوضى ضد التأقلم؛ نجد أن عقلية الشخصيات والنظام‬
  ‫المجتمعي لا تتقبل فكرة الإنسان الخفي‪ ،‬وعلى اعتبار أن‬       ‫الاجتماعي القائم على الاستلاب‪ ،‬متوترة بين ما تحياه‬
 ‫ما يتسلل إلى اللغة هو رؤيتنا للأشياء‪ ،‬لا الأشياء نفسها‪،‬‬    ‫وما تريده‪ ،‬يقول‪« :‬أنا حبيس جملة من الظروف‪ ،‬لا أجد‬
                                                            ‫سببًا منطقيًّا يجعلها تتفرغ لي وحدي من دون الناس»‪،‬‬
    ‫فقد لعبت اللغة دو ًرا بالغ الأهمية في تكثيف الدلالات‬
‫الشعورية لانفعالات الشخصيات؛ فـ»زهية» خلعت المكتبي‬           ‫فإمام المسجد حسن دفاف رجل فاسق‪ُ ،‬رشح لمنصب‬
                                                            ‫عميد أئمة المدينة‪ ،‬والخادمة سعدية التي مات زوجها في‬
  ‫«على الأغلب من أجل آخر أكثر فحولة»‪ ،‬وحارس المقبرة‬        ‫ورشة للحدادة دون تأمين؛ فلم تحصل على أي تعويض‪،‬‬
   ‫جلال الأعمش يبيع عظام الموتى كانتقام منهم‪ ،‬ومنيرة‬       ‫والتي كبر وعاش ابنها كجرذ وسط العشوائيات‪ ،‬تكرمت‬
   ‫داودي انفصلت عن المحقق رفيق ناصري لعدم قدرته‬             ‫عليها الحكومة بسكن اجتماعي مؤخ ًرا‪ ،‬وصديقه المقرب‬

     ‫على الإنجاب؛ فإذا به يقرر الانهزام أمام هدى قائ ًل‪:‬‬      ‫سحقت بطنه عجلات الشاحنة‪ ،‬والتاجر المتدين لم يك‬
‫«كانت هدى تلعب الشطرنج بشكل ممتاز‪ ،‬هزمته أول مرة‬            ‫في الواقع سوى خنزير‪ ،‬يمارس وصايته عليه‪ ،‬والمكتبي‬
                                                           ‫عثمان لاقوش خبير في العربدة وتجارة الخمور‪ ،‬والمخبر‬
  ‫عندما لعبا في المستشفى‪ ،‬ثم صار الانهزام أمامها عادة‬
   ‫لا يمل منها‪ ،‬مهزو ًما كما كان على الدوام»‪ ،‬وهو نفسه‬         ‫«قادة البياع» كان مشروع إرهابي فاشل‪ ،‬تطرف في‬
 ‫الذي تمنى أن يختفي أو يصبح شفا ًفا؛ «فالفساد في البلد‬    ‫الإخلاص لأجهزة الأمن فارتقى لرتبة قواد‪ ،‬يرصد البطل‬
‫يمشي على قدمين‪ ،‬يعيش بين الناس‪ ،‬وقد تآلفوا معه‪ ،‬إنه‬
‫فلسفة دولة بأكملها»‪ ،‬كأن الجزء الثاني من الرواية اعتمد‬        ‫هشاشته‪ ،‬ويكشف تجربة عجزه الحقيقية في مواجهة‬
   ‫على تفكيك ممارسات الشخصيات‪ ،‬وكشف النقاب عن‬             ‫فوضى الواقع‪ ،‬كأن هدفه الأساسي يتلخص في قدرته على‬
‫التشوهات الاجتماعية الحافلة بالطبقية‪ ،‬والفحولة الشكلية‬    ‫الحفاظ على ذاته صب ًرا على الزمن‪ ،‬ولأن الذات التي تتميز‬
  ‫بداية من التخفي الذاتي ووصو ًل إلى التخفي التاريخي‪.‬‬
                                                              ‫بالتوحدات‪ ،‬يصعب تحديد ملامحها؛ نجد أن لامبالاة‬
    ‫خاتمة‬                                                    ‫البطل لا تتأطر ضمن معادلة الخير والشر‪ ،‬وبلادته لا‬
                                                            ‫تؤدي إلى تدمير الآخر ولا إلى خلاصه؛ فالفوضى ُتفرز‬
  ‫لأن الفعل اللغوي في الرواية جاء معتم ًدا على الحدث في‬    ‫الخلل المجتمعي كما تنتج عنه؛ أى أننا أمام الدرجة صفر‬
  ‫زمان ما‪ ،‬ثم إن هذا الحدث افترض مكا ًنا موضوعيًّا أو‬         ‫للواقع‪ ،‬ولأن حالة اللايقين تفترض من البطل التحرر‬
  ‫تصور ًّيا‪ ،‬جاءت التساؤلات مرتبطة ارتبا ًطا سيكولوجيًّا‬   ‫من العناية والنظام والتأقلم‪ ،‬فالأمر لا يتعلق هنا بمفهوم‬
   ‫بتصورات الذات‪ ،‬وجاء المونولوج كأداة لتشييد معمار‬         ‫التحكم في الذات؛ لذلك جاء تبرير التواجد في خدمة والد‬
   ‫الرواية بما يتضمنه من سيادة ضمير المتكلم ومركزية‬
                                                                ‫مراد مصد ًرا للفخر الذاتي في ظاهره‪ ،‬وداف ًعا لتأزم‬
      ‫الذات‪ ،‬لا غرابة في ذلك؛ فالنصوص الذاتية تتضمن‬         ‫الذات في باطنه‪ ،‬فيقول عن الشيخ سليمان بن نوي بعد‬
   ‫الماضي الذي ُيحكى عبر الاستدعاء الضمني للذكريات‪،‬‬          ‫موته‪« :‬خدمت هذا الجثمان خدمة جليلة‪ ،‬وللأسف لن‬
  ‫والمضارع الراهن الخاضع تما ًما لفعل لرغبة‪ ،‬والمستقبل‬
                                                               ‫يستطيع رد الجميل‪ ،‬بإسداء أى نصيحة مهما كانت‬
       ‫الذي يجب أن يطغى عليه الخيال من أجل تجاوز‬             ‫تافهة»؛ فعندما يعاق الفعل تكون الرغبة ويكون الواقع‬
                                 ‫انشطارات الذات‪.‬‬              ‫السيكولوجي للشخصيات مقاب ًل للدال اللغوي القائم‬
                                                             ‫على التصور‪ ،‬الفوضى والعدمية هنا تنطلق من الذات‪،‬‬
 ‫وبما أن الأسلوب المونولوجي هو المهيمن على بنية العمل‬      ‫لكن هل يمكن رسم حدود فوضى الذات؟ فالبطل لا يظن‬
  ‫الروائي؛ فالدلالات السيكولوجية للمونولوجات الذهنية‬          ‫أن هناك ضرورة تدعوه إلى الالتفات لذكرى الحادثة‪،‬‬
   ‫جعلت التداعي الحر وسيلة الأفعال المنسوبة إلى الذات؛‬    ‫وبغض النظر عن الطريقة التي قد نفهم بها فلسفة الكاتب؛‬
                                                          ‫فالمتلقي بحاجة إلى قدر من الموضوعية وتناسي المسلمات‬
     ‫ربما يرجع ذلك إلى العلاقة بين الذات المستلبة وبين‬     ‫بشأن تفكير وأفعال الشخصيات‪ ،‬يتعلق الأمر ُهنا بزمن‬
‫العنوان كعتبة أولية للعمل‪ ،‬كأن الكاتب يخبرنا من البداية‬    ‫ُيشتق من لا زمن‪ ،‬ويتعلق بالهوية الغائمة التي نلاحظها‬
‫إنه ليس هنا من أجل وضع الآخر في بؤرة الحدث؛ فالآخر‬          ‫في تفكك شخصية البطل الرئيسية «المشكلة أننا لا نملك‬
   42   43   44   45   46   47   48   49   50   51   52