Page 138 - ميريت الثقافية العدد (32)- أغسطس 2021
P. 138

‫العـدد ‪32‬‬                         ‫‪136‬‬

                                        ‫أغسطس ‪٢٠٢1‬‬

    ‫أحدهما أسخطت الأخرى‪ .‬ما‬             ‫صاحبها‪ ،‬بل تناقش بشكل علمي‬            ‫البخاري ‪ 4270‬حدثنا قبيضة‬
  ‫استوقفني هنا أنه يعلم العلاقة‬          ‫إلى أن يثبت عوارها أو صحتها‪،‬‬       ‫بن عقبة حدثنا سفيان عن عاصم‬
                                                                            ‫عن الشعبي عن ابن عباس رضي‬
      ‫بين الضرتين‪ ،‬فهي علاقه‬               ‫ومنهج العلوم الإنسانية ليس‬
   ‫مليئة بالضغائن والمشاكل‪ ،‬بل‬           ‫الحفظ والتلقين والاستنباط من‬          ‫الله عنهما قال‪ :‬آخر أية نزلت‬
   ‫هو نفسه وصفهم بالضرتين‬                                                     ‫على النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫(جاءت من كلمة الضرر)‪ ،‬ولكنه‬                  ‫نص مقدس‪ ،‬فالمجهود الذي‬
  ‫مر مرور الكرام لأنه يؤمن أن‬             ‫يقول عنه د‪ .‬علي جمعة إنه علم‬                            ‫آية الربا‪.‬‬
   ‫هذا الضرر حلال‪ ،‬فمهما نظر‬               ‫هو مجهود ُح َّفاظ‪ ،‬يقرأ النص‬         ‫وفي حديث آخر برقم ‪،4314‬‬
    ‫إلى المشاكل لا يسعه عقله أن‬         ‫ليطبقة ولا يري تبعات تطبيقاته‪،‬‬        ‫حدثنا آدم بن أبي إياس‪ ،‬حدثنا‬
   ‫يرى المشكلة لينتقدها ويحلها‪،‬‬            ‫فمث ًل يأتوا إلينا من التراث أن‬   ‫شعبه‪ ،‬حدثنا مغيرة بن النعمان‬
 ‫بل هذا أمر واقع وبديهي عنده‪،‬‬            ‫مدة الحمل ‪ 4‬سنوات كيف قبل‬             ‫قال‪ :‬سمعت بن جير قال‪ :‬آية‬
                                                                             ‫اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت‬
    ‫هنا لا أناقش قضية حقوقية‬                                ‫عقلهم ذلك!‬       ‫فيها إلى بن عباس فسألته عنها‪،‬‬
  ‫ولكني أناقش طريقه عمل عقل‬              ‫هذه إحدي أعاجيب العقل القائم‬       ‫فقال نزلت هذه الآية «ومن يقتل‬
   ‫فقيه ديني وعالم؛ العالم ينظر‬                                             ‫مؤمنًا متعم ًدا فجزاؤه جهنم» هي‬
‫للمشكلة فيعمل بها المنهج العلمي‬            ‫على الحفظ والتلقين‪ ،‬تم تدمير‬       ‫آخر ما نزل وما نسخها شيء‪.‬‬
                                           ‫العقل النقدي تما ًما فأصبحوا‬
     ‫العقلاني من أجل حلها‪ ،‬أما‬                                                     ‫حديث آخر ‪ 4329‬حدثنا‬
    ‫فقيه الدين فيري المشكلة ولا‬              ‫ضيِّقي الرؤية ومغيبين عن‬         ‫سليمان بن حرب حدثنا شعبة‬
   ‫تعنيه‪ ،‬لأنه من منظوره علاقة‬          ‫الحقائق الواضحة‪ ،‬بانهماكهم مع‬          ‫عن أبي إسحاق سمعت البراء‬
    ‫الضرتين‪ ،‬وأن إنسانة تعيش‬            ‫نصوص وتراث يقرؤونه بمنطق‬             ‫رضي الله عنه قال‪ :‬آخر سورة‬
‫ضر ًرا حلا ًل فلم يلفت نظره حل‬
    ‫المشكلة من الأساس‪ ،‬فشعار‬              ‫الإيمان المطلق‪ ،‬فنراهم يبررون‬          ‫نزلت براءة‪ ،‬وأخر آية نزلت‬
   ‫رجل العلم الحل وشعار رجل‬             ‫فظائع بد ًل من أن يلفظوها‪ ،‬فأين‬        ‫«يستفتونك قل الله يفتيكم في‬
    ‫الدين ليس في الإمكان أفضل‬
 ‫مما كان‪ ،‬فنحن أمام بناء فكري‬                      ‫هذا من عقلية العالم؟‬                            ‫الكلالة»‪.‬‬
                                            ‫يقول د‪ .‬زكي نجيب محمود‬                 ‫لا أعتقد في هذه الأحاديث‬
     ‫لا إبداع ولا جديد فيه؛ لأن‬          ‫«المفكر الأصيل يوجه فكره نحو‬          ‫المتناقضة أي سوء نية‪ ،‬سواء‬
 ‫الطاقة الفكرية كلها منصبة على‬            ‫الشيء‪ ،‬أي نحو الموضوع‪ ،‬قبل‬        ‫ممن جمعهم أو من قائلهم‪ ،‬ولكن‬
 ‫مبدأ مسلم بصوابه منذ البداية‪،‬‬             ‫أن يوجهه نحو فكر جاءه من‬           ‫هكذا العقل الشفاهي الحافظ لا‬
                                        ‫سواه فيصبح فك ًرا على فكر»(‪.)13‬‬         ‫يمكن أن ينتهج طريقة علمية‬
   ‫وعليها أن تستخرج من البئر‬                ‫ولهذا نرى كثي ًرا من الفتاوي‬      ‫للوصل إلى المعرفة‪ .‬ولكن يبقى‬
‫ماءها‪ ،‬ما وسع دلاؤها أن تخرج‬              ‫منفصلة تما ًما عن الواقع‪ ،‬فهي‬        ‫هنا سؤال‪ :‬هل يمكن أن يكون‬
‫من ذلك الماء الكامن في مخبئه(‪.)14‬‬         ‫منحصره على أفكار تصب على‬            ‫الدين عل ًما؟ قد يقول قائل لماذا‬
                                           ‫أفكار‪ ،‬وإذا أنكر أحد ذلك فرد‬        ‫أص ًل المقارنة بين دقة العلوم‬
    ‫يقول د‪ .‬زكي نجيب محمود‬                   ‫فعل رجال الدين أن يسلكوا‬            ‫التجريبية وبين الدين؟ فمن‬
   ‫عن مشكلات أن نضع أفكارنا‬                  ‫طريقين‪ ،‬إما أن يكفر المنتقد‬    ‫الممكن أن نعتبر الدين من العلوم‬
                                           ‫ويدعي المظلومية‪ ،‬أو أن يبرر‬          ‫الإنسانية‪ ،‬فالعلوم الإنسانية‬
     ‫على أفكار الأخرين‪« :‬فلأبين‬            ‫الذي أتي به مهما كان مخال ًفا‬    ‫أي ًضا لم تصل إلى حد الدقة‪ ،‬فهل‬
      ‫للسائل المتحدي وج ًها من‬             ‫للعقل والمنطق‪ ،‬سأعطي مثا ًل‬      ‫يمكن اعتبار الدين عل ًما إنسانيًّا؟‬
                                           ‫يوضح كيف يعمل عقل رجل‬               ‫طبعا لا‪ ،‬لأن العلوم الإنسانية‬
     ‫وجوه النكبة الفكرية‪ ،‬إذا ما‬                                              ‫ليست علو ًما قائمة على الإيمان‬
 ‫أنفقنا معظم طاقتنا الفكرية على‬                    ‫دين مقابل عقل عالم‪.‬‬      ‫المطلق‪ ،‬فإذا جاءت نظرية توضح‬
                                            ‫ففي كتاب إحياء علوم الدين‬            ‫عيوب نظرية أخرى لا ُيك َّفر‬
   ‫فكر الآخرين وشرحه بدل أن‬               ‫«لأبي حامد الغزالي» يتكلم عن‬
    ‫نتجه بمعظم جهودنا العقلية‬            ‫رجال الدين ومناظراتهم فيقول‪:‬‬
    ‫نحو نشاط عقلي أصيل يقيم‬                  ‫هما كالضرتين إذا أرضيت‬
   ‫لنا منا ًخا ثقافيًّا جدي ًدا يتلاءم‬
   133   134   135   136   137   138   139   140   141   142   143