Page 174 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 174

‫العـدد ‪34‬‬                                 ‫‪172‬‬

                                ‫أكتوبر ‪٢٠٢1‬‬                        ‫والغريب أن نهاية الستينيات‬
                                                                       ‫وبداية السبعينيات حتى‬
    ‫لا فيه ولا في أي تقدم أو‬     ‫قامت بها أوروبا في القرنين‬                ‫نهايتها كانت مرحلة‬
    ‫أي منجز من الأصل‪ .‬لقد‬       ‫السادس عشر والسابع عشر‬                 ‫انسحاب الحداثة ودخول‬
  ‫انتهى كل من كوبرنيكوس‬          ‫واستطاعت أن تنجو بنفسها‬               ‫عصر ما بعد الحداثة‪ .‬ما‬
   ‫وجاليليو ونيوتن وغيرهم‬                                                ‫يعني أننا قضينا عمليًّا‬
   ‫بنهاية القرن التاسع عشر‬          ‫وتفصل الدين عن الدولة‬              ‫كل القرنين التاسع عشر‬
   ‫وظهر جيل فيزياء الكم أو‬      ‫مرة واحدة وإلى الأبد لتدخل‬
 ‫فيزياء الكوانتم‪ .‬وتزامن هذا‬    ‫مرحلة الحداثة وعصر الثورة‬             ‫والعشرين خارج مشاريع‬
    ‫كله مع بدايات مبدأ “اللا‬    ‫الصناعية م ًعا‪ ،‬وتصنع واق ًعا‬          ‫الحداثة وما بعد الحداثة‪،‬‬
   ‫تحديد” أو مبدأ “الشك”‪.‬‬        ‫جدي ًدا تما ًما للكرة الأرضية‪،‬‬       ‫وكنا مجرد صدى لها‪ ،‬أو‬
                                                                      ‫عناصر مستهلكة لمنجزها‬
     ‫وتم اكتشاف جسيمات‬            ‫بصرف النظر عن اختلافنا‬             ‫المعرفي في العلوم الإنسانية‬
 ‫جديدة إلى جانب الجسيمات‬             ‫أو اتفاقنا مع التوجهات‬            ‫والطبيعية‪ ،‬بل وأي ًضا في‬
 ‫الكلاسيكية المتعارف عليها‪.‬‬                                           ‫حركة التصنيع التي بدأت‬
‫ولكن في الحقيقة‪ ،‬كان النجاح‬     ‫السياسية والاستعمارية التي‬             ‫عمليًّا في الغرب في القرن‬
                                    ‫صاحبت حركات التنوير‬              ‫التاسع عشر‪ .‬وفي الحقيقة‪،‬‬
    ‫الحقيقي هو الوصول إلى‬                                            ‫أنا لا أريد في هذا المقال أن‬
    ‫مبدأ الشك وعدم إمكانية‬        ‫في أوروبا في مرحلة ما بعد‬          ‫أضيع وقتي ووقت القارئ‬
‫تحديد مكان واحد للإلكترون‬        ‫القرون الوسطى وظلاميتها‬           ‫في استرجاع واستعادة نفس‬
 ‫دائب الحركة‪ ،‬والتي بدونها‬      ‫ودمائها وحروبها الدينية‪ .‬إن‬          ‫المقدمات النظرية التي باتت‬
   ‫ستختفي المادة وسيختفي‬         ‫القطيعة مع الماضي هي أولى‬              ‫دائرة مفرغة يدور فيها‬
                                                                    ‫الكتاب والمفكرون والمثقفون‬
      ‫الكون ويتلاشى‪ .‬ومنذ‬          ‫الخطوات الجادة والعملية‬            ‫ولا يستطيعون كسرها أو‬
   ‫ثلاثينيات القرن العشرين‬        ‫للحاق بالقاطرة الأخيرة في‬          ‫الهروب منها‪ .‬أعتقد أنه قد‬
                                                                        ‫آن الأوان لوضع النقاط‬
      ‫انفتحت طاقات وأبواب‬           ‫هذه الحضارة الإنسانية‬              ‫على الحروف وكسر هذه‬
    ‫جديدة في العلوم‪ ،‬تمهي ًدا‬    ‫الحديثة التي تمر أمام أعيننا‬         ‫الدائرة الجهنمية بالابتعاد‬

       ‫لدخول مرحلة ما بعد‬             ‫ونحن لا نزال في حالة‬                 ‫عن المقدمات النظرية‬
‫الحداثة‪ ،‬وظل المبدأ الأساسي‬      ‫تكلس وتحجر وإصرار على‬                  ‫الاستعراضية المستهلكة‬
                                  ‫استرجاع الماضي وتمجيده‬
   ‫الذي يحكم العالم منذ ذلك‬                                               ‫والدخول مباشرة إلى‬
‫الحين حتى عشرينيات القرن‬            ‫وإعلاء قيمته باعتباره ما‬                        ‫الموضوع‪.‬‬
                                    ‫ينبغي أن يكون‪ ،‬بينما ما‬
  ‫الواحد والعشرين هو مبدأ‬        ‫هو كائن بالفعل مجرد فراغ‬          ‫لقد آن أوان القطيعة المعرفية‬
‫تعدد الاحتمالات والإمكانيات‬         ‫ووهم وعدم ولا قيمة له‪.‬‬         ‫والفلسفية مع الماضي‪ .‬قطيعة‬
‫والروايات والحقائق وال ُو ُقع‪.‬‬
 ‫قد يبدو هذا الكلام لا علاقة‬    ‫العلوم والحداثة وما بعد الحداثة‪..‬‬     ‫بنفس قوة وقدرة القطيعة‬
‫له بحديثنا عن نجاح أو فشل‬                                          ‫المعرفية والفلسفية التي قامت‬
                                 ‫مبدأ الشك وامتلاك اليقين‬
   ‫مشاريع التنوير في مصر‪.‬‬                                             ‫بها كل من ألمانيا واليابان‬
   ‫ولكن للأسف فهذا الكلام‬        ‫ماذا نتج عن نظرية «الشك»‬             ‫بعد الحرب العالمية الثانية‪،‬‬
‫يدخل في صلب فكرة التنوير‪،‬‬             ‫أو «اللا يقين» الخاصة‬        ‫وقطيعة معرفية بنفس القيمة‬
  ‫وينبغي أن يكون بحد ذاته‬            ‫بحركة الإلكترون؟! نتج‬
  ‫أحد المصادر الرئيسية لأي‬                                               ‫المادية والتاريخية التي‬
                                ‫عنها دخول عصر الاحتمالية‬
     ‫مشروع تنويري في ظل‬               ‫وتعدد الحقائق‪ ،‬وتعدد‬
    ‫الحضارة العلمية التقنية‬
 ‫والعالم الرقمي‪ .‬إننا ببساطة‬      ‫ال ُو ُقع‪ ،‬سواء اتفقنا مع ذلك‬
                                    ‫أم لم نتفق‪ ،‬لأن هذا ليس‬
                                     ‫برغبتنا‪ ،‬بل ولم نساهم‬
   169   170   171   172   173   174   175   176   177   178   179